زمان كنّا نستعد قبل زفاف أيّ من الأقارب أو الأصدقاء بوقتٍ طويل، كنّا نفصّل فستاناً أنيقاً وبسيطاً خاصاً بكل زفاف، فماكينة الخياطة السينجر مغطاة بمفرش مزركش صغير حتى لا تتسلّل ذرات التراب إلى إبرتها، وما أن نعلم أن هناك مناسبة سعيدة في الطريق حتى نتصّل تليفونياً بالخيّاطة أم إبراهيم لتأتي إلينا. كانت أم إبراهيم امرأة خمسينية، لكنها تبدو أكبر من عمرها، جذورها البعيدة سودانية، لكن لهجتها تخلو من أي لكنة، ومع أننا كنّا نلبس من صنع يديها أجمل الموديلات الباريسية التي نستخرجها من كتالوج بوردا الشهير، إلا أنها هي نفسها لم تكن ترتدي إلا ثوباً أسود لا تغيّره.
كان وجود أم إبراهيم في المنزل لبضعة أيام يشيع حالة من البهجة، ويخلط روتين أيامنا ورتابتها بشيء من الطرافة والفضول. تبدأ بتصميم الباترون، ثم تقوم بتنفيذه بجديّة متناهية، تلف المِتر الطويييل حول رقبتها، وتستعين بنا في لضم الإبرة، ثم تأخذ الماكينة في التكتكة. عندما فتحتُ عيني على أم إبراهيم كانت قلّما تطلب منّا هذا النوع من المساعدة، لكن بالتدريج ضعف بصرها وصارت تعتمد علينا أكثر فأكثر. كانت امرأة صاحبة مزاج، لا تخيّط إلا وفنجان القهوة المحوّجة إلى جانبها، وجهاز الريكوردر تنبعث منه أغنيات الأفراح لتدخل في المود، كما صرنا نقول في هذه الأيام. على المستوى الشخصي كنت أحب جداً أغنية يا «اولاد بلدنا يوم الخميس حاكتب كتابي وابقى عريس» للعبقري محمد فوزي، فهذه الأغنية فيها من خفّة ظلّه وطَرب ألحانه ما يكفي ليجعل الدنيا كلها ترقص، وذلك للدرجة التي جعلتني أصدّق أن فساتين أم إبراهيم نفسها ترقص على أنغامه، ولم لا؟ ألم ترقص الفساتين في أشعار نزار قباني؟
• • •
هذا الاستعداد البسيط للأفراح كان ينسجم تماماً مع بساطة الأفراح نفسها. لم أعاصر الأفراح التي تقام داخل البيوت كما حدثّتنا الصديقة العزيزة دكتورة أماني قنديل في كتابها الممتع عن ثقافة الأفراح والأحزان عند المصريين، ومن قبلها الدكتور جلال أمين في كتابه الأشهر «ماذا حدث للمصريين؟»، وربما كان جيلي هو الذي شهد بدايات إقامة الأفراح في النوادي والفنادق، لكن بالمعقول في الإنفاق والضوضاء والأضواء… وفي كل شيء. كان صوت الموسيقى المنخفض يسمح لنا بأن نسمع بعضنا البعض وندردش ونتبادل الأخبار، وكان العروسان يجلسان في الكوشة فلا يتركانها إلا لرقصة هادئة، ثم لتقطيع تورتة من ثلاثة أو أربعة أدوار على الأكثر، لا فرهدة ولا نطّ ولا عَرَق ولا يحزنون. كان فرحي صورة طبق الأصل من هذه الأفراح، مع أنني لم أكن أريد فرحاً من الأساس.
• • •
مع جيل Z اختلف الوضع تماماً، والاختلاف أمر طبيعي من جيلٍ لجيل، وكل عصر وله أوانه. لكن الاختلاف الحاصل حالياً انتقل من مساحة التطوّر الاجتماعي الطبيعي، والتغيّر المقبول في منظومة القيم.. إلى مساحة العبث واللامعقول. كنتُ أظن أن القدرة على الإدهاش في أفراح الجيل Zتقتصر على لقطات عجيبة.. من نوع اشتراط حضور المدعوين إلى الفرح وهم يرتدون ثياب النوم كنوع من الروشنة.. يا للهول. أو قيام العروس بغسل قدمي عريسها الهُمام بالماء والصابون أمام المدعوين.. يا للهول أيضاً. أو قيام العريس بسحل زوجته لأن جنّاً ركبه، ثم احتضانه عروسته بعد ذلك وسط التصفيق والقهقهة من الجميع.. يا للهول للمرة الثالثة. أو تقديم العريس شبكة لأمه، أو ارتداء أمه أو أخواته فساتين أقرب ما تكون إلى فستان الزفاف.. من أجل مكايدة العروس، أو أو…
كنت أظّن ذلك، حتى رأيت قبل أيام عروسين يتلاكمان بقفازات حقيقية كتلك التى يرتديها الملاكمون ويسدّد كل منهما اللكمات للآخر.. وهنا فإن تعبير يا للهول ليس كافياً بالتأكيد.
وعندما نأتي لتفسير هذه السلوكيات يمكن القول ــ كما يحلو للبعض ــ إنها تعود إلى الرغبة في ركوب الترند على وسائل التواصل الاجتماعي. وهذا وارد وله منطقه، لكني أظّنه غير كافٍ بحد ذاته، وأن المسألة أكثر تعقيداً من جمع القلوب واللايكات والوجوه الضاحكة في التعليقات، وربما كنّا نحتاج إلى نوعٍ من التحليل النفسي من أهل الاختصاص لعلّنا نفهم ما هي الحكمة من بداية حياة زوجية.. تجلس فيها العروس تحت قدمي عريسها لتصنع منه سي سيّد جديداً فى القرن الحادي والعشرين، أو ما هي الحكمة من أن يجر العريس عروسه من طرحتها وكأنه شمشون وهي دليلة؟ وكيف تتصوّر أسرة العريس أنها يمكن، ولو من باب المزاح، أن تنافس العروس وتسرق منها فرحتها بليلتها وشبكتها وفستانها ولا ينعكس ذلك على العلاقة معها في ما بعد؟ وإذا كنّا نرتدي البيجامات في سهراتنا فهل نرتدي السواريه في الفراش؟ وأخيراً.. أخيراً جداً ما هو وجه الطرافة في أن يفقأ العريس عين عروسه أو العكس دون قصد حين يشتّد التنافس في مباراة الملاكمة وتأخذ العروسين الجلالة؟
• • •
في أفراح الجيل Z – أو في الزواج على الطريقة الحديثة – تزداد غرائبية الاحتفالات وعجائبيتها أكثر فأكثر، فنرى العروسين يتدليّان بحبلٍ طويل من السقف، ويخرجان كماردَين من وسط الدخان، ويأتيان في قارب يتهادى فوق مياه البحر، وينفقان بدون حساب على ليلة العُمر، ومع ذلك.. فقليلاً ما تطول العِشرة ويستمر الوَنَس ويدوم الود وتستقر الحياة الزوجية. هذه المفارقة بين المبالغة في الاحتفال بالفرح، وسرعة انفصام العُرَى.. هي ظاهرة يمكن رصدها بالعين المجرّدة ودون الحاجة للرجوع إلى إحصائيات الطلاق.
في المثَل الشائع: قل لي ماذا تتباهى به أقُل لك ماذا ينقصك، ويقول محمود درويش: قل للغياب نقّصتني وأنا أتيت لأكملك. وبالفعل هناك شيء ما غير أصلي وغير حقيقي وغير منطقي يؤدّي إلى خلط الأمور وتبديل الأوراق، شيء يحوّل بوصلة السعادة من التفاصيل الخاصة بشريك أو شريكة العُمر إلى التفاصيل المتعلّقة بمظاهر الاحتفال. على أيامنا لم تكن تنقصنا بالتأكيد الفرحة في ليلة العمر، لكننا كنّا نعرف كيف نستخرج هذه الفرحة من الأشياء البسيطة وبأقّل الإمكانيات، وكنّا نصنع أفراحنا ولا نحتاج مَن يصمّمها لنا ولا نعرف الـwedding planner . لم نعتنِ أبداً بأن نبدأ حياتنا الجديدة بواحدة من ليالي ألف ليلة وليلة، لكننا كنّا نهتم بأن يدوم رباطنا المقدّس ليالي كثيرة.
• • •
لم أعد أحب الأفراح، مع أن مزاجي قريب جداً من حالة الانشراح والفرفشة التي تسودها، والزغاريد التي تملأ أجواءها. لم أعد أحبها.. لأنني صرت غير قادرة على التواصل فيها أو التأقلم معها، ولأنني بتّ أشعر تجاهها بالغربة.
وطالما في قلبي فرحٌ حقيقي بكل حبيبين.. يبدآن حياة جديدة، فأظّن أن هذا يكفي.
نقلاً عن «الشروق»