أمينة خيري..
يسعى البعض إلى التحرر من مسؤولية نفسه، ومن مسؤولية التفكير لنفسه، ومن مسؤولية اختياراته الحرة. يسلِّم مفاتيح عقله لأحدهم، وهذا الـ«أحدهم»..تتلخص مهام عمله في إقناع أكبر عدد ممكن، بأنه «مسؤول التفكير». وأنها مسؤولية تم تكليفه بها ربانياً، وأن مهمته.. هي منع (أي حماية) الناس من التفكير، لأن فيه هلاكاً لهم.
هذا النوع من العمل.. يزدهر في البيئات التي تعتبر التفكير سُبَّة، والاختيار الحر مصيبة.
في هذه البيئات، يتم العمل على الإبقاء على منظومة التعليم.. في ثلاجة الجمود والتحجر. ويتم ضبط المنظومة برمتها على هذا الأساس: الطالب يتعلم ألَّا يفكر، فقط يحفظ ويصمّ، ويسكب ما تم حقنه به من معلومات.. على ورقة الامتحان، والمعلم -وهو خريج المنظومة نفسها -يُحفِّظ ويلقِّن، ويقي الصغار شرور التفكير، والناظر مهمته التأكد من أن الطالب لا يفكر، وأن المعلم لا يحرِّض الطالب على التفكير، وولي الأمر تزيد سعادته.. كلما اتسعت قدرات الابن على الحفظ والسكب، وإن اكتشف -لا قدر الله -أنه يسأل سؤالاً خارج المنهج، ويا سلام لو كان في مسألة حساسة أو جدلية ،أو خارج منظومة «آمين»، فإنه يقلب الدنيا رأساً على عقب، ويحرص على إعادة الابن العزيز.. إلى ثلاجة النظام التعليمي.
وفي مثل هذه البيئة، يُهيَّأ للأفراد.. أنهم يحظون بنظام تعليمي رائع، وأنهم نجحوا في مهمة التربية والتنشئة.. بشكل مثير للإعجاب، وتكون مهمة المجتمع كله.. الإبقاء على هذه المنظومة، والحفاظ عليها من مخاطر التفكير الخارجي، وتهديدات الأسئلة خارج المنهج.
سنة أولى تطرف وتعصب، تصنعها هذه المنظومة التعليمية والتربوية، وتغذيها بقية المؤسسات.. في المجتمعات التي تختار – أو تُجبر على اختيار – هذا النوع من الحياة.
يشغلني كثيراً مجتمع مثل «مخيم الهول»..في شمال سوريا. في أعقاب ما يحلو للإعلام أن يسميه «هزيمة داعش» – التي لم ولن تُهزَم – لأن «داعش» فكرة، والفكرة لا تموت.. حتى وإن اتخذت أشكالاً لا تنتمي لداعش بالضرورة، تم تجهيز المخيم – الذي تحوَّل إلى ما يشبه مدينة قائمة بذاتها-ليضم نحو 40 ألفاً من أفراد أسر الدواعش، أغلبهم من النساء والأطفال.
تخيَّل معي طفلاً.. فتح عينيه – أو وصل المخيم في عام 2019 – ولم يبرحه قط. هو محاط بأم داعشية، وينتمي لأب داعشي، ويعيش في مجتمع مشبع بهذا الفكر (الذي لا يختلف جوهرياً عن كثيرين، يعيشون معنا وحولنا، حيث الاختلاف فقط في درجة التطرف).
ماذا تتوقع منه اليوم، أو بعد عشر سنوات؟ وماذا تتوقع مثلاً من الأسر السورية – التي سُمح لها بالعودة إلى ديارها – وهم على هذه الحال الفكرية؟ هل سينشرون المحبة والسلام والمودة أينما حلُّوا؟ هل تخلوا عن أفكارهم – التي حتماً حقنوها إلى صغارهم أثناء الرضاعة – المتعلقة بكفر الدولة، وكفر الآخر، وكفر المجتمع؟، هل تبدو الأسئلة مألوفة؟ ألم تسمعها، عزيزي القارئ، تتردد من حولك؟
نقلاً عن «المصري اليوم»