مقالات

الإشاعات والذكاء الاصطناعي والسياسة وما بعد الحقيقة

أثارت الصور المنسوبة للملك تشارلز – ملك المملكة المتحدة البريطانية – على الشاطئ، وهو يلهو بعد ساعات من حفل التتويج.. ضجة كبيرة على وسائل التواصل الاجتماعي.

وتعددت ردود الفعل وتباينت؛ فهناك من انتقد، ومن تنمَّر على الملك الجديد، ومن اختار السخرية مدخلاً للتعليق. ولكن قلة من استطاعت الشك والبحث في حقيقة تلك الصور، فلم ينتبه البعض للاختلافات بين وضع الملك تشارلز بالصور المنسوبة إليه، والبنية الجسدية لجلالته خلال حفل التتويج.. وصور الشاطئ؛ فهما لشخصين مختلفين، ولكن تصديق الشائعات كان الأقوى. والأكثر خطورة.. كان مصدر تلك الصور، فهل تخيلنا أنها صنيعة للفاعل الأشهر هذه الأيام، ألا وهو الذكاء الاصطناعي؟

إن ما حدث ليس مخططاً تآمرياً، ولكنه تقنية الـ Deep Fake، أو التزييف العميق، كتقنية تقوم بصنع فيديوهات مزيفة – اعتمادا على برامج الحاسوب – من خلال خاصية التعلم الآلي.. التي يتيحها الذكاء الاصطناعي. تتم عبر دمج بعض الصور ومقاطع الفيديو لشخصية ما، لإنتاج فيديو جديد يبدو حقيقياً.. لكنه مزيف في الواقع؛ الأمر الذي يحمل خطورة كبيرة، فهو يُستخدم في حملات الاغتيال المعنوي لبعض قادة الرأي والساسة والمعارضة.

ومن أشهر محاولات التزييف العميق.. لاستهداف الساسة، استبدال وجه الرئيس الأرجنتيني ماوريسيو ماكري بوجه أدولف هتلر، كما استعيض عن وجه أنجيلا ميركل بوجه دونالد ترمب. وفي أبريل 2018، نُشر فيديو على شكل إعلان خدمي، يظهر فيه الرئيس الأمريكي السابق باراك أوباما وهو يتحدث حول خطر التزييف العميق. وفي يناير 2019، بثت شبكة فوكس التلفزيونية فيديو.. مصنوعاً بتقنية التزييف العميق للرئيس ترمب يلقي خطابا في المكتب البيضاوي.

وقد بدأ الاستخدام الفعلي للتقنية عام 2017، بعد قيام موقع ريديت بنشر فيديوهات إباحية مفبركة، لم يستطع اكتشافها إلا خبراء علم الكمبيوتر. ثم سرعان ما تم تطوير التقنية ليصعب اكتشافها، وفي كثير من الأحيان.. يستحيل اكتشافها تماماً؛ فالحرفية تتطور يوماً بعد يوم.

وحتى مع ذلك الإتقان التقني – ووجوده من عدمه – فعالم ما بعد الحقيقة، جعل معتقدات الناس وأهواءهم.. هي مدخل التصديق من عدمه.

ومع سهولة ومجانية التطبيقات لتلك التقنية، يتم تغذية هذا العالم المخيف، ومن أشهرها برنامج فايك آب Fake Up الأصلي مثل ديب فايس (Deep Face)‏، فايس سواب (Face Swap)‏ وماي فايك آب (My Fake Up)‏ ؛ فأصبح بإمكان الفرد تشويه من يغار منه، أو من يحقد عليه، ومن يرغب في التخلص منه. ولم لا.. والتقنية متداولة، ويصعب كشفها، أو على الأقل إحداث ضجة حول الشخص المستهدف؟

المشكلة الأكبر، هي في انتشار هذه التقنية، التي ربما ستتحول إلى سلاح.. إذا تم رواجها، وقد تولد في المجتمع أسوأ ما يمكن أن يتخيله بشر. والسؤال الأهم «هل يمكن أن يتحول ذلك لظاهرة مجتمعية؟» وهو الأخطر.

وقد يمتد الاستخدام لتشويه الثوابت في مكونات الهوية.. عبر حروب الظلام – من الإشاعات وحملات الهدم والتشويه – ضد الأديان، وتزييف المعتقد، وهدم شخصيات دينية كبيرة، والافتراء عليها لبث معلومات وأحكام ومعتقدات خاطئة؛ خاصة إذا كانت قد رحلت عن عالمنا، ويصعب نفي ما يتم ترويجه، يضاف لتشويه الأحياء منهم.. لنزع الاحترام والهيبة التي يحظى بها رجال الدين.

والتاريخ لن ينأى عن التلاعب والتزييف.. الذي نشاهده بشكل يومي، فلن يتوقف الأمر عند حد افتراء البعض على شخصيات تاريخية، ولكن سيتم اختلاق أحداث وقرائن وأدلة.. والاحتكام لها، لتحقيق مخططات أكبر.. كمخطط الأفروسنتريك، ومخطط عودة اليهود.. في سياق محو قرائن حقيقية على الأرض، كهدم مقابر الأجداد، دون معرفة حقيقة أنها أدلة وقرائن على وجود حياة وبشر، وأنساب وتسلسل عرقي، يُنتج أدلة جينية مهمة للمستقبل.. وفقاً لاتفاقية الشعوب الأصلية، وما تثيره من لغط حول قرائن إثبات الحقوق في الأرض.

والأكثر من ذلك، يمكن لهذه التقنية هدم السلطة.. التي لا تستند فقط على قوة الإكراه، وإنما على الشرعية ورضاء الناس؛ فيمكن في ضوء منظومة حروب الأجيال.. إنتاج فيديوهات تحت مسمى التسريبات لبعض القادة والرؤساء، تنسب لهم جرائم ضد شعوبهم، أو ضد شعوب صديقة.. لتشويههم وإثارة الحروب بين دول متجاورة، مع اختيار توقيتات معينة لنشر تلك الفيديوهات.. في إطار علم الإدارة بالأزمات.. قبيل انتخابات أو احتفالات أو ذكرى انتصارات، على أن تكون الفيديوهات متوالية وممنهجة، ليخيم عليها ضباب عالم ما بعد الحقيقة.

الإشكالية المرتبطة بتلك التقنية، تكمن في الحالة الضبابية التي نعيشها، وهذا ما حاول التعبير عنه الباحث في الذكاء الاصطناعى أليكس شامباندارد؛ قائلاً إن «المشكلة ليست مشكلة تقنية، وإنما المشكلة الأساسية هي أن الإنسانية يمكن أن تقع في عصرٍ.. لم يعد من الممكن فيه تحديد ما إذا كان محتوى صورة أو فيديو ما حقيقياً أم لا».

فعالم ما بعد الحقيقة، هو عالم ما بعد المجتمع الطبيعي Post Normal Society، يحتاج لأدوات جديدة للتعايش والمواجهة، ويضع ذلك.. المشرع ورجل الدين والسياسي.. أمام تحديات كثيرة، تتطلب منهم جميعاً سن القوانين، التي تقنن الاستخدام، وتحرم الافتراء. كما تفرض تفكير رجال الحرب في توظيف التقنية ضد الأعداء.. قبيل الانتخابات، ووقت الانتصارات أو الأزمات؛ فهي إحدى أدوات الحروب الجديدة. وفيما يتعلق برجال الدين، فمن المهم تجديد الخطاب الديني؛ ليتضمن رفع الوعي بالمخاطر، وتوعية الناس بحكم الدين.. لبناء مناعة داخلية، تحصن المجتمع من آفات تلك التقنية.

وأخيراً، علينا في هذا العالم.. أن نتحلى بالعقلية النقدية، فهي السلاح الوحيد في هذا العصر الضبابي.

* أستاذ مساعد بمعهد التخطيط القومي وعضو المجلس المصري للشؤون الخارجية.

Share
لندن - تايمز أوف إيجبت

Recent Posts

مصدر: توزيع أسرى إسرائليين على أهداف محتملة للاحتلال في غزة

مصدر مطلع في غزة يقول أن عناصر المقاومة الفلسطينية «وزعت أعدادا من الأسرى الإسرائليين، على…

8 أشهر ago

احتفالية كبرى في لندن باليوبيل الذهبي لانتصار أكتوبر (صور)

مكتب الدفاع في السفارة المصرية يستضيف احتفالية كبرى.. بمناسبة الذكرى الخمسين (اليوبيل الذهبي) للانتصار في…

8 أشهر ago

مكتب الدفاع المصري بلندن يحتفل باليوبيل الذهبي لانتصارات أكتوبر

مكتب الدفاع المصري بلندن ينظم مساء غد الإثنين الثاني من أكتوبر ، إحتفالا رسمياً بمناسبة…

8 أشهر ago

تراجع سعر الذهب.. وعيار 21 يسجل 2175 جنيهًا

انخفض الذهب في مصر قرابة 20 جنيها منذ أمس الجمعة، على خلفية انخفاض سعر الذهب…

8 أشهر ago

وفاة عسكري بحريني رابع جراء الهجوم قرب الحدود السعودية اليمنية

أعلنت البحرين، أن عسكريا رابعا في وحدتها المشاركة في التحالف الذي تقوده الرياض ضد الحوثيين…

8 أشهر ago

مصر تُعلن إنتاج كل المواد البترولية بحلول العام المقبل

رئيس مجلس الوزراء المصري مصطفى مدبولي، يقول إن الدولة ستكون قادرة على إنتاج كل المنتجات…

8 أشهر ago

This website uses cookies.