أحمد الجمال
أواصل ما انقطع في سلسلة «نبلاء وأوباش»، والعبارة هي عنوان كتاب للأديب والمفكر الصديق الراحل سليمان فياض.
وقد ذكرت، في مقال سابق، بيانات الكتاب والإهداء الذي كتبه المؤلف للعبد لله: «من كاتب نميمة إلى عاشق النمائم»، وأوضحت المعنى العربي الفصيح للأوباش، وتوقفت عند شخصية «التمرجي» الذي هو ممن وصفهم سليمان بأنهم.. «كتبة تعلموا تعليماً متوسطاً.. وقهروا مبدأ الطبيعة والاجتماع: البقاء للأصلح والأقوى والأجود.. وصاروا بالإعلام والزن وابتذال النفس وضعف الكرامة مشهورين بين قراء متوسطي الحال مثلهم».
ويحكي سليمان أن يوسف السباعي – حين ولي دار الهلال – سارع بإصدار مجلة الزهور الأدبية كملحق لمجلة الهلال، لينشر فيه الأدباء الشبان في ذلك الزمان.. أشعاراً وقصصاً ونقداً أيضاً مما لا يرقى مستواه للنشر. وسعى سليمان – من باب الفضول – لشراء عدد من «الزهور»، وحرص على أن يحتمل قراءته من بدايته لنهايته، فاستوقفته قصة لشاب ناشئ في الساحة الأدبية.
لم يكن يعرفه، وفوجئ بجرأته وبجهل المسؤولين عن تحرير الزهور بالأدب العالمي، إذ جاءت تجربة قصة ذلك الشاب وأحداثها وشخوصها.. مسروقة ومحتذاة من قصة «تشيكوف» الرائعة «الأسى».. المترجمة للعربية مراراً، وقال سليمان لنفسه: «لص قصص عديم الحيلة، فقير الموهبة، ضحل التجربة واللغة، يطمح إلى أن يكون شيئاً».
ونسى سليمان الأمر.. إلى أن التقاه، وقدّمه إليه أحد الأصحاب، فقال للص القصص على الفور: يا ابني من تشيكوف؟! ومن واحدة من أشهر قصصه في العالم وأروعها وتحول قصته الرائعة إلى مسخ؟ كيف؟.. وابتسم «لص القصص» كلص، وقال – مراوغاً بتبجح ودون أن يُظهر أي ذعر – : توارد خواطر، أنا لم أقرأ قصة تشيكوف هذه، فتأمله سليمان فياض، وبدا له مثل «تمرجي» فقد الحس والكرامة، وصار خلية تسعى، صندوقاً من اللحم الأسمر الأصفر، له رأس بلا عنق ووجه مليث مغروس بين كتفين بلا عظام، وفم منضغط كأنه بلا أسنان، وعينان متنمرتان كعيون العرس تبديان استعداداً لأي عمل وأي خدمة وأي تواجد، شِعاره: «اخطف واجري»!
وحين حدّث سليمان صاحبه بخاطره عن شبه لص القصص بالتمرجي، الذي يأكل خفية طعام المرضى، ضحك وقال له: هو فعلاً كان تمرجياً، وتركها ليتخرج في مدرسة للمعلمين بالمدارس الابتدائية، وصار مدرساً، ووفِدَ للقاهرة وتسلل ليوسف السباعي، فكان واحداً من الكتبة حمَلة الحقائب. ثم يستطرد سليمان فياض بقلمه الساخر اللاذع ليتذكر وقائع تُندي جبين أي حر.. عن ذلك اللص الأدبي، إلى أن يصل لما هو الأكثر فداحة في حياتنا الأدبية والثقافية؛ وأعني به شجاعة البعض! حتى البجاحة في التعامل مع سفارات دول عربية وأجنبية تفاعلاً مسفاً، فيه من الانحطاط أسفل مستوياته.
وإذ كان سليمان فياض في زيارة – آنذاك في السبعينيات – للملحق الصحفي في سفارة العراق «فاضل الشاهر».. الذي كان محباً للثقافة والمثقفين، وعاشقاً لمصر وأهل مصر، وقوميَّ الفكر، فصار صديقاً لكل المثقفين تقريباً، يعتاد زيارتهم في بيوتهم، ويزورونه في عمله وبيته، وفيما هما جالسان، رد الملحق على الهاتف ثم قال: دعوه يأتي إليَّ.. ووضع السماعة، وقال لسليمان: شخص لحوح ثقيل الظل، لكنني سأصرفه بسرعة.
وطرق الباب ودخل القادم اللحوح ثقيل الظل، فإذا هو بعينه «لص القصص.. صندوق اللحم المليث»، ولأن الدبلوماسي العراقي عامله بغلظة ولم يدعُه للجلوس، غضب سليمان بقوة لأنه مصري مثله، وسأله من فوره: لماذا تعامله هكذا؟ فأجاب الدبلوماسي بتأفف: وماذا أفعل له وهو يبتذل نفسه.. هل أعامله باحترام؟!. وطفق فاضل الشاهر يحكي لسليمان عن ابتذال اللص فقال: «ماذا أفعل يا صاحبي؟ كل يوم يذهب بسيارته إلى بيتي ويدق الجرس، ويسأل زوجتي عما تريده من السوق، فتعطيه السلة والنقود فيذهب للسوق ويشتري ما طلبته.. ويومياً يفعل ذلك، وحتى لو قالت له يوماً إنها لا تريد شيئاً فلديها ما يكفينا من مواد لأسبوع، يأتي في اليوم التالي ويسألها: هل تريدين شيئاً من البقال.. يومياً يفعل ذلك»!
ويرد سليمان: اعذرني.. انهره.
فيأتيه الجواب: فعلت ونهرته مراراً، وطلبت منه أن يتوقف، فيرد بأنه يحبني ويحب خدمتي.. والأفظع من ذلك أنه يحرص على الذهاب كل يوم لمدرسة الأولاد، وينتظر دق الجرس الأخير ويعود بهم إلى البيت.. فقل لي بربك ماذا أفعل؟.
ولا تفرغ سطور فصل «التمرجي».. من وقائع أخرى عن آخرين، لا يقلون تهالكاً عن المذكور، الذي شاء حظي أن تكون لي معه معاملات، ومواقف.. تدخل في نطاق ما صنَّفه سليمان فياض، وميَّز فيه بين النبلاء وبين الأوباش.. وللحديث بقية.
نقلاً عن «المصري اليوم»