Times of Egypt

وداعًا عام تعفن الدماغ!

Mohamed Bosila
عبدالله عبدالسلام 

عبدالله عبدالسلام..
في عام 1854، نحت عالم الطبيعة والفيلسوف الأمريكي هنري ديفيد ثورو مصطلح «تعفن الدماغ»..منتقداً التبسيط المُفرط في تفكير الناس، وتعاملهم مع القضايا والمشاكل التي يواجهونها. وقال: «هناك ميل في المجتمع.. للتقليل من قيمة الأفكار، التي يمكن تفسيرها – بطرق متعددة – لصالح الأفكار البسيطة، وهذا مؤشر على تراجع عام في الجهد الفكري والعقلي. لماذا ننزلق إلى أدنى مستوى من إدراكنا البليد، ونمتدح ذلك.. باعتباره السلوك السليم؟». وأضاف: «بينما تسعى إنجلترا إلى علاج تعفن البطاطس، لماذا لا تسعى إلى علاج تعفن الدماغ.. الذي ينتشر على نطاق أوسع بكثير وبشكل مميت؟».
ماذا لو كان ثورو يعيش في عالمنا اليوم؟ بما سيصف حالنا؟ عام 2024، يجسد كل ما انتقده الفيلسوف الأمريكي قبل 170 عاماً. وصلت السطحية وتدهور الحالة العقلية والانشغال بأمور تافهة.. إلى درجة أن دار نشر أكسفورد – المسؤولة عن نشر قاموس أكسفورد الشهير – اختارت نفس تعبير ثورو، ليكون كلمة عام 2024.
في حيثيات الاختيار – الذي جاء نتيجة استفتاء شارك فيه 37 ألف شخص – ذكرت أن المصطلح يصف التدهور المتواصل للحالة العقلية أو الفكرية للشخص.. نتيجة الإفراط في استخدام محتوى أو مضمون عبر الإنترنت دون عمق؛ كما هو الحال مع الفيديوهات القصيرة على تيك توك وغيرها من منصات التواصل والتطبيقات التكنولوجية.
تردد استخدام «تعفن الدماغ» – خلال العام الذي غادرنا – وسط مخاوف من التأثير السلبي للإفراط في استخدام المحتوى التافه قليل القيمة في وسائل التواصل، على الحالة العقلية للبشر خاصة الأطفال والشباب.كلمة تعفن ليس فيها مبالغة كبيرة؛ إذ أظهرت الدراسات العلمية أن استهلاك كميات كبيرة من المحتوى غير المرغوب فيه، بما فى ذلك الأخبار المثيرة ونظريات المؤامرة والترفيه السطحي، يمكن أن يؤثر بشكل عميق على أدمغتنا.
أبحاث كلية طب هارفارد وجامعة أكسفورد.. أشارت إلى أن إدمان وسائل التواصل يمكن أن يشتت الانتباه ويُضعف الذاكرة ويشوه المعرفة الإنسانية. العلماء قالوا إن الاستهلاك «القهري» للأخبار والمواد الأخرى، التي يتلقاها الإنسان رغماً عنه.. من خلال ما يسمى التمرير التلقائي، والإشعارات التي لا تتوقف.. من إنستجرام ورسائل الواتس وتنبيهات الأخبار، تغير الطريقة التي ننظر بها إلى العالم وكيفية الاستجابة لذلك.
لكن هل السطحية تتوقف فقط عند ذلك؟
للأسف لا.
فقد تغلغلت في نواحٍ كثيرة من حياتنا، وتعمقت في 2024.
إحدى المشاكل التي نعاني منها – نتيجة ذلك الإلهاء الذي ينتج عنه تشتت التفكير وقلة التركيز -كم هائل من المعلومات التي لا تستحق هذا الاسم.. من فرط سطحيتها وتفاهتها، يدخل إلى أدمغتنا ويحتل المساحة الأكبر من الذاكرة، مما يجعلنا غير قادرين على التفريق بين الغث والسمين. لكن الأخطر، أنه لا يترك لنا فرصة كي نستزيد من المعلومات القيّمة العميقة؛ سواء كانت كتاباً أو دراسة أو مقالاً أو فيلماً أو مسرحية. اعتدنا «الفلاشات» السريعة، التي تضيء ثواني معدودة ولا تترك أثراً. نسبة كبيرة من مثقفينا انساقت وراء «البوستات والتغريدات»، التي تحرمنا من نتاجهم الفكري والعلمي العميق.

الإلهاء وصلت أضراره إلى أن نخبة الطلاب في الجامعات المرموقة في الغرب – وبالتأكيد عندنا – لا يستطيعون قراءة كتاب للنهاية، لأنهم يجدون صعوبة في مواصلة التركيز والفهم. العديد من المدارس الإعدادية والثانوية الأمريكية.. ابتعدت عن تدريس النصوص الأدبية لصالح المقاطع القصيرة حتى يستوعبها التلاميذ. تعفُّن الدماغ من أعراضه أيضاً، اللغة الجديدة المستخدمة على الإنترنت. يتم كتابة نصوص عربية بحروف إنجليزية، أو استخدام الأرقام بدل الحروف. أما المضمون، فيمكن وصفه بأنه غاية في الخفة والضحالة.
وحتى لا نظلم 2024، فإن الظاهرة ليست جديدة. الخطر بدأ منذ مطلع القرن الحالي، عندما أصبح البريد الإلكتروني أداة شائعة. في عام 2005، نشرت صحيفة الجارديان تقريراً بعنوان: «البريد الإلكتروني يشكل تهديداً لمعدل الذكاء»، وكان عن دراسة علمية، ملخصها أن الذين استخدموا الإيميل والهواتف المحمولة يومياً انخفض معدل ذكائهم بمقدار 10 نقاط، بالقياس لمن لم يستخدموه. وأضاف التقرير أن تأثير استخدام هذه الوسائل التكنولوجية على العقل.. أكثر من تعاطي الحشيش.
إلا أن التأثير السلبي.. وصل ذروته العام الحالي، ولم يقتصر على مستخدمي الإنترنت فقط، بل انتشرت العدوى في شتى المجالات. التفاهة بسطت سلطانها على العالم، كما قال المفكر الكندي آلان دونو في كتابه: «نظام التفاهة» الصادر 2021. التافهون أمسكوا، حسب رأيه، بمفاصل السلطة ووضعوا أيديهم على مواقع القرار وصار لهم القول الفصل والكلمة الأخيرة في كل ما يتعلق بالخاص والعام.
نقلاً عن «المصري اليوم»

شارك هذه المقالة
اترك تعليق

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

For security, use of Google's reCAPTCHA service is required which is subject to the Google Privacy Policy and Terms of Use.