مصطفى حجازي
هل العالم اليوم في 2025، أعقل.. أعدل.. أأمن من العام 1925 أو 1825؟
هل العالم الآن يحيا أكثر لحظات تاريخه جنوناً وانتحاراً، أم أنه على غير ذلك؟
هل نحن اليوم أقرب إلى إنسانيتنا.. أم نحن نتماس مع كل ما هو دون بشريتنا، في درك أقرب إلى الحيوانية؟
في لحظة نشر هذا المقال، يكون قد تخطى الشهر.. على إعلان الرئيس الأمريكي «دونالد ترامب» حربه التجارية العالمية؛ فيما سماه «يوم التحرير»، الموافق الثاني من أبريل الجاري.
في خلال الأسابيع القليلة الماضية، فرض «ترامب» تعريفات جمركية على الحلفاء والأعداء سواء بسواء.. تباينت أقدارها وحدَّة توجيهها بين الحلفاء الأوروبيين، وهم من نالهم العدوان الأرفق.. مقارنة بالصين، التي صارت هي العدو الأول للولايات المتحدة تجارياً – حتى الآن – بلا منازع، ولا نزوع إلى دبلوماسية من أي من الطرفين.
«ترامب» ما زال يعيش نشوة عودته الساحقة للبيت الأبيض، مغادراً مصير الإدانة في أربع وثلاثين قضية، ويبدأ عهده بنزعة انتقامية ثأرية.. من كل من عدَّهم قد أرَّقوا حياته، أو أقَضُّوا عليه مضجعه، لم يَسلم من الأمر مُدَّعُون عموم، شخصيات أمنية رفيعة.. في وكالة المخابرات الأمريكية، أو في وكالات الأمن الداخلي، طال الأمر قضاة كما طال موظفي هيئة المعونة الأمريكية.
يحقق «ترمب» أكبر قدر من الصخب الإعلامي، والفوران السياسي والدولي.. منذ يومه الأول في البيت الأبيض، كل ذلك ليس مقروناً بكثير من الأثر الحقيقي على الأرض، بأكثر من التململ والقلق، وانهيار الثقة في المعسكر الغربي التقليدي.. كما تعميق هوة التوجس، وتأكيد سمة العداء الأمريكي.. لدى الشعوب الأقل حظاً في الجنوب السياسي، وشعوب المشرق، وعالمنا العربي بالضرورة.
فلا الحرب في أوكرانيا انتهت، ولا هدنة وقف إطلاق النار صمدت، ولا استطاعت لغة الوله السياسي – التي يستخدمها «ترامب» في حق الرئيس الروسي «بوتين» – أن تحقق تقدماً إيجابياً حقيقياً في مسار الحرب.. التي تدخل عامها الرابع، دون أفق أكثر من استنزاف روسيا وحصارها.
وفي مقابل ذلك، خنق – يكاد يكون كاملاً – لأوكرانيا، دونما تحقيق أي من طموحاتها.. في الالتحاق بالاتحاد الأوروبي، أو حتى الوقوف على أعتاب الناتو. بل وباتت مهدَّدة بالتوقيع على التنازل عن ثرواتها في المعادن النادرة.. لسداد ديون حرب لم تخطط لها، أو تمعن فيها، بأكثر منها حُمِلَت عليها حملاً.. من جانب أوروبا وأمريكا.
وبعد كل الوعيد تجاه المشروع النووي الإيراني، والتلويح بضرب المنشآت النووية، وعن خيارات إيران الصفرية.. في أن تحيا دولة مرتدعة خانعة للإرادة الأمريكية والإسرائيلية، أو مصير الدمار الاقتصادي والمادي.. إذا بنا – وفي غضون ثلاثة أسابيع – يجتمع الضدان (إيران وأمريكا) ثلاث مرات في مسقط.. لجولة مباحثات أولى غير مباشرة، ثم في جولة تالية في روما.. بوساطة عمانية أيضاً، ثم لجولة ثالثة منذ أيام أو ساعات قلائل في العاصمة العُمانية مرة أخرى.. ليخرج المفاوضان الإيراني عباس عراقجي والأمريكي ستيف ويتكوف.. بسيل من التصريحات الإيجابية عن المفاوضات، وتعقيب عُماني عن أن ما كان يُظن أنه مستحيل.. صار محلاً للمداولة والتفصيل. الأهم، هو أن يكشف عضو لجنة الأمن القومي والسياسة الخارجية في البرلمان الإيراني محمد مهدي شهرياري، أن «الجمهورية الإسلامية بدأت بالتواصل مع فريق الرئيس الأمريكي دونالد منذ عامين»..!
وبحسب ما نقله موقع «إيران إنترناشيونال»، اعتبر «شهرياري» أن «هذه الخطوة كانت انعكاساً لذكاء الدبلوماسية الإيرانية»، مشيراً إلى أن «معلومات دقيقة ومباشرة.. كانت تُنقل منذ شهور إلى القيادة العليا والجهاز الدبلوماسي».
ولنقرأ جميعاً وبهدوء.. كل هذا الصخب الإعلامي والتراشق السياسي بين إيران وأمريكا طوال تلك المدة، التي تجري فيها مفاوضات دؤوبة، ترمي لخلق نوع من الشراكة.. مقابل النزاع بين الدولتين. ولنقرأ أيضاً كل حروب الوكالة – التي أشعلتها إيران، وأذكت أوارها على مدار السنتين الماضيتين – ملقية بكل الوكلاء العرب، والقضايا العربية الكبرى.. وقوداً تنضج به وتيرة التفاهم بين واشنطن وطهران.
وبالضرورة، يبقى للإدارة الأمريكية الحالية قصب السبق.. في الدعم غير المشروط لنظام القتلة في تل أبيب، وإسباغ كل أنواع المؤازرة النفسية – قبل السياسية والمادية – لعونهم، إن لم يكن حملهم على الإبادة الجماعية للفلسطينيين، وللإسراع بعملية التهجير القسري لشعب كامل من أرضه، ولابتلاع ما تبقى من فلسطين التاريخية، وبالضرورة.. طمس الحق التاريخي، والإجهاز على كل معنى وجدوى وضرورة.. لوجود وطن عربي، أو مصالح عربية، أو شعوب عربية ذات قدر.
حالة – وكأنها غير مسبوقة – من الكراهية والعنصرية ضد كل ما هو عربي ومسلم، كما وُصِفَ بأنه تطهير عرقي إنساني وثقافي وتعليمي وحضاري؛ فالقتل والسحق بسبق الإصرار.. لكل ملمح حياة أو سبب لحياة، مع إصرار على تدبيج كل فعل للقتل، بقدر هائل من البغضاء والاحتقار، وعدم الاعتداد بإنسانية أطفال ونساء وشيوخ وعموم أبناء فلسطين. فالتعاطف اللفظي هو مع الأسرى الإسرائيليين، وباسمهم وباسم إنقاذهم تستمر المقتلة.
بل وجهد محموم.. لتزييف التاريخ والوعي العالمي، وادعاء أن الحرب الحضارية الحالية.. هي حرب الحضارة اليهودية المسيحية، ضد بربرية العروبة والإسلام..!
ولمن ما زال متشككاً، فليراجع تصريحات «نتنياهو» نفسه في هذا الشأن.
في داخل إسرائيل، الجنون يقود – في آخر تصريحات لـ«يائير لابيد»، زعيم المعارضة – ويؤكد أن إسرائيل على حافة الهاوية، إذا استمرت حكومة القتلة.. بقيادة «نتنياهو»، في الدفع بالأمور إلى عدم إيقاف القتل في غزة. ليس ذلك تعاطفاً مع الفلسطينيين، ولكن لأن المجتمع الإسرائيلي يتمزق.. بنعوت الخيانة التي قد تدفعه إلى الحرب الأهلية.
وأخيراً، وليس آخراً، يخرج السيد ترامب بأحدث طبعة من تحرشه السياسي بمصر، مطالباً بحق مرور السفن العسكرية والمدنية الأمريكية دونما رسوم.. في قناة السويس، مذيلاً ذلك بسيل من المَن البائس.. وتخريجاته عن الفضل الأمريكي على مصر والمنطقة، وأن رد الجميل الذي آن.. وكل هذه الترهات..!!
إذاً، هذا هو عالمنا اليوم.. اقتصاداً وسياسة.. في العام 2025
وهو عالم يبدو وكأنه ما زال في كنف قيادة الحضارة الأوروبية الغربية، وإن تقترب هيمنتها من النهاية.
وتحت ذات القيادة – ومنذ مائتي عام – كان قرابة اثني عشر مليون أفريقي قد استُعبدوا، ونُقلوا – في أكثر جرائم البشر وحشية وانحطاطاً في التاريخ – للعمل كالسائمة.. في مزارع الأمريكتين.
كما كان الاستعمار المباشر، ونزح ثروات الشعوب، يجري بلا رقيب ولا حسيب، ولكن بتكالب وسُعار بين القوميات الأوروبية.. القديم منها والناشئ؛ من بريطانيا وفرنسا إلى بلجيكا وإيطاليا وألمانيا.
حروب كبرى بين ممالك وملكيات من ذات الموئل – من «الهابسبورج» – يُقتل فيها.. بين حربين عالميتين، ما يزيد على مائة مليون إنسان، أغلبهم من المدنيين، وتُخلّف ملايين من المعاقين نفسياً وجسدياً، ودماراً هائلاً للمدن.
في سبيل ذلك التكالب الاستعماري، تُقسم بلادنا، وتُغتنم بدم بارد فلسطيننا، وتُعطَى سبيَّة لشذاذ الآفاق من يهود الشرق الأوروبي.
مائتا سنة إذاً.. تعج بالجنون والظلم وسفك الدماء، وقانون غاب يتسيد، واستنزاف مقدرات الشعوب الأضعف.. باسم انتشالها من تخلفها، ومدبجاً بعناوين كبرى؛ كمسؤولية الرجل الأبيض، وحمله الثقيل الذي يحمله على ظهره.. من الشعوب الأكثر تخلفاً.. وهي نحن بالضرورة.
مائتا سنة، أتت بنا إلى هنا إلى اليوم.. إلى عالم يملك فيه كثير من بسطاء الناس.. أدوات وقدرات، وانفتاحاً على المعرفة والتواصل والانتقال.. بأكثر مما ملك ملوك وأباطرة منذ مائتي عام. ولكنه عالم.. يراد فيه – وبأدواته الجديدة – إعادة تأهيله لوصاية جديدة، ولاستعمار جديد، ولاستنزاف جديد.. من إنسان لإنسان. أو هكذا يتوهم البعض..!
عالم اليوم على حافة غَدٍ مغاير.. عالم يغادر الإنسانية إلى ما «بعد الإنسانية».. إلى «متجاوز الإنسانية» وإلى ما «فوق الإنسانية»..
نحن على أعتاب مستقبل في العام 2025.. قد يدفعنا التطور التكنولوجي والهندسة الحيوية -كارهين مضطرين – إلى تجاوز مركزية الإنسان في الكون، ودمجه في منظومة تتجاوزه.. إلى ما هو أوسع وأشمل.. للذكاء الاصطناعي، والكائنات غير البشرية «الروبوتات» وما مثلها. وقد يدفعنا إلى ما هو أرفق.. باسم «الإنسانية المعززة»، أن نُرقي قدرات الإنسان العادي – عبر التكنولوجيا – لنصبح كائناً هجيناً بين البشر والآلة.
هو مستقبل.. ستتغير فيه أسئلتنا الوجودية والأخلاقية الكبرى، لتتجاوز قضايا الهيمنة التقليدية – من خلال الاستعمار المباشر والقوة المسلحة واستغلال الشعوب – إلى قضايا أعقد، في حدها الحد بين العدل والظلم.. بين الكرامة والمهانة.. بين الحرية والاستعباد. أسئلة وجودية ستنشأ.. عمن سيمنح فرص التطوير، ومن سيُستَعبد أو يُستَبعد.. ليصير هَمَلاً، استبعاد قد يكون أشق وأسوأ من الاستعباد..!
وفي ذلك، ستُعاد صياغة مفاهيم الهوية والكرامة والحقوق.. في عالم لم يعد الإنسان فيه الكائن الأوحد المهيمن.
على أعتاب هذا الغد الجديد، ارتفع الإنفاق الكلي – منذ بداية القرن الحادي والعشرين – على البحث العلمي قرابة ثلاثة أضعاف؛ من 1 تريليون دولار إلى 2.8 تريليون دولار فى نهاية 2023. نصيب الاقتصادات الآسيوية من الإنفاق هو 46٪ من الإجمالي العالمي، ونصيب أمريكا الشمالية 29٪، ونصيب أوروبا 21٪، ولا ذكر لأفريقيا أو العالم العربي..!
يتربع على عرش الإنفاق في مجال البحث، ثلاث من أصغر الدول، هي إسرائيل (كيان غاصب بلا شرعية وقومية منتحلة)، ثم كوريا الجنوبية، وهي شطر من شبه جزيرة كانت تحيا في غياهب الفقر منذ نصف القرن. وتليهما تايوان.. تلك الجزيرة الصينية الصغيرة، التي لا تكاد تُذكر في جغرافيا الصين أو ديموجرافيتها.
أخيراً..
في أصداء سيرته الذاتيه، ساءل نجيب محفوظ حيرته – متمثلة في ضميره وعقله وشيخه عبدربه التائه – قائلاً:
«سألت الشيخ عبدربه التائه: كيف لتلك الحوادث أن تقع في عالم.. هو من صنع رحمن رحيم.
فأجاب بهدوء: لولا أنه رحمن رحيم ما وقعت..!».
كان محفوظ يسأل عن عالمه الذي خبره وعاشه..
وبدوري، ساءلت الشيخ عبدربه التائه: «هل لبلادنا وعالمنا العربي مكان.. في مستقبل تلك هي قسماته، بعد ماضٍ عشناه وحاضر نعيشه؛ كلاهما في كنف جهالة تتسيد، ومنطق مُخاصَم، وعلم مهجور، وعدل ضائع بين رحى غريب كاشح وقريب مُضَيِّع؟».
فأجاب بهدوء: «لا مكان في هذا الغد القادم.. إلا لعلم يقود، وحكم يسترشد بالعدل، ويقتفي المنطق.. ولا قيمة لقوة، ولا عتاد بغير علم.. هو روحهما، وكنه وجودهما، وشوكة بقائهما».
فَكِّرُوا تَصِحُّوا..
نقلاً عن «المصري اليوم»