عبدالله عبدالسلام..
«لماذا التشبث بالسلطة، بينما هناك زعيم قوي.. يمكن أن يصبح رئيساً للبلاد، وهو رجل يعلق عليه الروس آمالهم في المستقبل؟».
هكذا فاجأ الرئيس الروسي بوريس يلتسين مواطنيه.. في 31 ديسمبر 1999، معلناً أنه سيتخلى عن الحكم، لصالح رئيس وزرائه فلاديمير بوتين.
بعد ربع قرن.. من سيطرته على مفاصل الحياة في روسيا، خرج بوتين قبل أيام، ليؤكد أنه استعاد مكانة روسيا، وأحبط جهود الغرب لإخضاعها.. بعد انهيار الاتحاد السوفيتي. هل روسيا أفضل من أي وقت مضى؟ أم أن خريف القيصر بدأ بالفعل؟
تعيش روسيا حالياً.. في بحر من المتناقضات، بحيث تنطبق عليها مقولة رئيس الوزراء البريطاني ونستون تشرشل: «روسيا ليست قوية أبداً، كما تبدو. وليست ضعيفة أبداً، كما يظهر». بعد فترة حكم يلتسين الكارثية في التسعينات، التي جعلت الروس يتحسرون على أيام الحكم الشيوعي، وأغرت الغرب بتحويلها إلى قوة إقليمية.. وليس قوة عظمى، استطاع بوتين وقف الانحدار السياسي والاقتصادي والعسكري.
… بدأ بالقضاء على تمرد الانفصاليين في الشيشان، ثم استدار على مراكز القوى الداخلية العديدة، التي ترعرعت في عهد يلتسين، ونجح في إزاحتها، وتكوين طبقة جديدة من السياسيين، والتكنوقراط، ورجال الأعمال.. الذين يدينون بالولاء له فقط. تفوق على خصومه.. الذين كان يصدمهم بتحركاته؛إذا توقعوا خطوة منه نحو اليسار، ضرب في اليمين. وإذا انتظروه يميناً، تحرك شمالاً. قضى على كل مظاهر المعارضة. ليس هناك – كما يقول المحلل السياسي البريطاني بول كيربي – ما يمنعه من البقاء في السلطة.. حتى 2036، إذا أراد.
وجد فيه الروس زعيماً قوياً، أنهى التدهور المعيشي والاقتصادي، وأوقف الانحدار في سمعة روسياومكانتها. أصاب الغرب بالدوار. اعتقد زعماؤه أنه إصلاحي ديمقراطي.. سيجعل من روسيا جزءاً من الغرب. عام 2001، وصفه بوش الابن – بعد لقاء معه – بقوله «نظرت إلى عينيه، وجدته صريحاً وجديراً بالثقة. تعرفت على روحه». قال عنه جيرهارد شرودر – مستشار ألمانيا الأسبق – إنه ديمقراطي، لا تشوبه شائبة.
لم يستبعد بوتين.. أن تصبح روسيا عضواً في الاتحاد الأوروبي وحلف الأطلنطي.
لكنه في عام 2006، غيَّر البوصلة، واتهم الغرب بعدم الرغبة.. في قبول بلاده دولة قوية مستقلة القرار. وقال إن توسيع نطاق الأطلنطي – ليشمل دول وسط وشرق أوروبا – انتهاك لضمانات سابقة، بعدم الاقتراب من حدود روسيا.
منذ عام 2008، استخدم القوة.. لمواجهة تهميش بلاده. تدخل في جورجيا، واستولى على مناطق فيها. في 2014، هاجم أوكرانيا.. وقضم جزيرة القرم.
لم تنجح العقوبات الغربية.. في زحزحته عن موقفه، لنصل إلى الخطوة الأكبر، وهي غزو أوكرانيا في فبراير 2022. عندها، انتهت علاقته بالغرب.
بايدن وصفه بأنه.. مجرم حرب، وديكتاتور قاتل، وبلطجي كامل الأوصاف.
في بداية الحرب، حقق تقدماً سريعاً، واستولى على مناطق شاسعة، وهدد العاصمة الأوكرانية. لكن الغزو تحول إلى حرب استنزاف طويلة، أراد منها الغرب.. إنهاك الدب الروسي، وإخراجه من المعادلة تدريجياً.
كانت العقوبات على روسيا كاسحة.. اقتصادية ومالية وتكنولوجية وسياسية. في المقابل، فازت أوكرانيا بدعم عسكري، لم تحصل عليه دولة أخرى سوى إسرائيل.
يدخل بوتين العام الجديد، وقد خسر أوراقاً مهمة.. تُبعده أكثر عن حلمه باستعادة مجد روسيا.
قواته تتقدم ببطء في المعركة، لكن أوكرانيا تحتل جزءاً من منطقة كورسك الروسية.. بهدف استخدامها وسيلة ضغط في أية مفاوضات مقبلة.
عمليات انتهاك السيادة الروسية، واغتيال قيادات عسكرية كبيرة مستمرة.. آخرها قتل الجنرال إيجور كيريلوف – قائد قوات الدفاع النووية والبيولوجية والكيماوية – في قلب موسكو الشهر الماضي.
الاقتصاد في أسوأ حالاته. مكانته الدولية تزعزعت بسقوط بشار الأسد. حالياً يسعى لسحب قواته ومعداته من قواعده بسوريا. نفوذه في المنطقة تلقى ضربة قاصمة.
لكن القيصر ليس خالي الوفاض.
ترامب يريد إنهاء الحرب الأوكرانية، ويضغط على رئيس أوكرانيا.. للموافقة على تنازلات لموسكو. رهان الغرب على انهيار الاقتصاد الروسي.. فشل. العقوبات الشاملة.. لم تحقق أهدافها كاملة.
تقلصت التجارة، لكن شركات غربية تواصل التعامل مع موسكو.
تهديد بوتين باستخدام السلاح النووي في حالة دخول الأطلنطي الحرب، أخاف الغرب الذي فقد مواطنوه حماسهم لدعم أوكرانيا بعد معاناتهم نتيجة الحرب.
شعبيته بالداخل ليست مهددة.. بعد تأمين البلاد اقتصادياً، ونجاحه في حشد الروس ضد الغرب. محاولاته إخراج روسيا من عزلتها تتواصل.
ينقصه فقط نهاية كريمة للحرب الأوكرانية، وهذا الأمر بيد ترامب.
قبل 140 عاماً، قال المستشار الألماني بسمارك: «سر السياسات الأوروبية، التوصل لاتفاق جيد مع روسيا».
مصير القيصر معلق بهذا الاتفاق.
نقلاً عن «المصري اليوم»