نبيل فهمي*
على مدى أكثر من سبعة عقود، استمر نضال الشعب الفلسطيني من أجل إقامة دولة مستقلة ذات سيادة، يتمكن من خلالها من ممارسة حقه المشروع في تقرير مصيره. وبرغم عدم تحقق هذا الهدف طيلة تلك الفترة، واصل الشعب الفلسطيني الشجاع الأبيُّ.. مساعيه في ظل ظروف صعبة، وتحمَّل تضحيات جسيمة، وواجه عقبات سياسية ضخمة في طريق ممارسة حقه المشروع. ولا يزال الفلسطينيون، حتى اللحظة، صامدين، على الرغم من معاناتهم الشديدة وظروفهم غير الإنسانية، ولم ييأسوا رغم صعوبة الموقف وتقديرات البعض أن نفوذهم التفاوضي تضاءل عبر السنين.
إن ما يُغذي الصمود الفلسطيني، والسعي الدؤوب نحو دولته.. هو شرعية القضية التي يقاتل من أجلها، فضلاً عن تحمُّل الفلسطينيين، وتصميمهم على المُضي قُدماً، وعدم فقدان الأمل في مواجهة التعتيم والتشويش، والضغوط الإسرائيلية المتواصلة التي لا تنتهي؛ إذ واجه الفلسطينيون، خلال العقود الماضية، تحديات لا مثيل لها، واعتبر العديد من المحللين السياسيين أن تطلعاتهم غير عملية وغير واقعية؛ ومع ذلك فقد صمد أفراد هذا الشعب، وثبتوا على أراضيهم، ولم يتركوا منازلهم، وتمسكوا بممتلكاتهم وانتقلت المسيرة من جيل إلى آخر.
وإزاء صلابة الصمود والثبات الفلسطيني، يبدو أن اليمين الإسرائيلي وأنصاره المتطرفين.. قد فقدوا الأمل في إخضاع الفلسطينيين، أو إرغامهم على الاستسلام والعيش تحت مظلة الاحتلال، أو حتى تغيير مسار قضيتهم المشروعة عن طريق إلحاق الألم والأذى بأفراد الشعب الفلسطيني حتى يستسلم. ونتيجة لهذه الإخفاقات، غيَّر اليمين الإسرائيلي المتطرف نهجه، وشرع في استخدام القوة الغاشمة، وشنَّ هجوماً شاملاً على الفلسطينيين وأرضهم بُغية تغيير الهوية الوطنية.
تهديد الدولة الفلسطينية:
في الآونة الأخيرة أعلنت إسرائيل صراحة عن نيتها تغيير خارطة الشرق الأوسط. وفي حين يشمل تحقيق هذا الهدف المنطقة بأكملها، إلا أن الهدف الأقرب يخص ويستهدف الفلسطينيين.. في قطاع غزة والضفة الغربية. وقد صرح وزير المالية الإسرائيلي علناً، بأن الفلسطينيين لديهم ثلاثة خيارات؛ العيش في إسرائيل من دون حقوق سياسية؛ أو المغادرة؛ أو مواجهة نفس المصير الدموي الذي واجهه الفلسطينيون في غزة، على مدى تجاوز الخمسة عشر شهراً الماضية. وتعبر هذه التصريحات عن مخطط إسرائيلي واضح يستهدف استئصال الهوية الفلسطينية من الضفة الغربية وغزة.
لهذا، تُعد المحاولات الإسرائيلية الأخيرة لتهجير جميع الفلسطينيين.. خارج غزة، بمثابة مسعى مبرمج ومؤسسي.. لتفريغ الأرض من سكانها الفلسطينيين. وقد أشار الرئيس الأمريكي دونالد ترامب صراحة، حتى قبل مناقشة اقتراحه الغريب بتهجير كل فلسطينيي غزة إلى الخارج، إلى أنه سيفكر في الاعتراف بضم إسرائيل للضفة الغربية.. في غضون أسابيع. وهناك على أرض الواقع أدلة واضحة لا تقبل الجدل، على وجود جهد متعمد ومنسق.. لإنهاء كافة التطلعات الفلسطينية لإقامة دولة، من خلال نقل أفراد الشعب الفلسطيني بالقوة، وضم أراضيهم بالضفة والقطاع.. إلى إسرائيل، من خلال محو أي مقومات للدولة الفلسطينية.
وبينما تشكل مقترحات إدارة ترامب بشأن تهجير الفلسطينيين من غزة.. تهديداً وجودياً لتطلعات الشعب الفلسطيني لإقامة دولة، ولا تترك أي مجالٍ للمفاوضات، فإن الدول العربية بالمقابل أعلنت – بشكلٍ لا لبس فيه – عن رفضها لهذا الاقتراح، بعد اجتماعَي قمة، وقدَّمت رداً قوياً وواضحاً. وعلى الرغم من الجهود الجارية لعرقلة التطلعات الفلسطينية، تظل الدول العربية ملتزمة استراتيجياً بمسار السلام العربي الإسرائيلي الشامل في المنطقة، مع وضع القضية الفلسطينية على رأس أولوياته.
بالطبع فإن الوضع الحالي في غزة، له الأولوية بشكل منطقي ومشروع. لكن – ونظراً للسوابق الماضية – فمن الواضح أن الأمن والسلام في المنطقة، لن يتحقق.. إذا ما استمر الاحتلال الإسرائيلي؛ لذا يجب إنهاء هذا الاحتلال الغاشم.. كأساس ضروري للحل السلمي والتعايش الآمن، وهي خطوة ضرورية ومهمة.. تفتح الباب للتعامل أيضاً مع بعض أهداف إسرائيل؛ شريطة ألا تتعارض بشكل صارخ مع الحقوق الفلسطينية في إقامة دولتهم. ولهذا فإن تقديم اقتراح شامل للتسوية يشمل مختلف اهتمامات الأطراف في آن واحد قد يكون ضرورياً وجديراً بالاهتمام.
مقترح شامل للسلام:
إذا أخذنا المواقف المعلنة على محمل الجد، فإن المطالب الأساسية للفلسطينيين والإسرائيليين هي: دولة فلسطينية ذات سيادة على أراضي 1967، وإنهاء الصراع وتوفير السلام للجانبين، والتطبيع الثنائي والإقليمي بين إسرائيل والعالم العربي، وتعزيز الأمن في الشرق الأوسط.
ومن أجل تحقيق ذلك، أطرح اقتراحاً شاملاً متكاملاً يضم العناصر الأربعة الآتية:
1 – إعادة إعمار غزة على أساس المقترح المصري بالقمة العربية، يشمل دوراً عربياً ودولياً في إعادة بناء غزة في غضون ثلاث أو خمس سنوات، ولجنة فلسطينية متخصصة لمتابعة إعادة الإعمار وإدارة غزة مرحلياً. وهنا، يهمني – شخصياً – التنويه أيضاً بأهمية وجود لجنة رقابية دولية.. من الداعمين لإعادة الإعمار، فضلاً عن تشكيل حكومة تكنوقراطية فلسطينية، لمواصلة المسيرة، وتأمين الترابط بين الضفة الغربية والقطاع.
2 – بناء الدولة الفلسطينية.. عن طريق رسم خطة عمل لتنفيذ حل الدولتين، على أساس حدود عام 1967 مع إجراء تغييرات طفيفة، على أن تكون هذه الخطة قابلة للتنفيذ.. في غضون خمس سنوات. وأكدت الورقة المصرية أن مشروع إعادة الإعمار.. جزء لا يتجزأ من مسار حل الدولتين.
3- بعد الاتفاق، والمُضي نحو إعادة الإعمار، وتنفيذ مسار حل الدولتين.. نشرع في التطبيع الإقليمي؛ تنفيذاً لمقترح القمة العربية في بيروت عام 2002.. الخاص بإقامة علاقات عربية-إسرائيلية طبيعية.. بعد انتهاء الاحتلال.
4- إنشاء منظمة أمنية إقليمية شرق أوسطية، تقوم في البداية على ثلاثة أركان؛ آلية لإدارة الأزمات، وأخرى خاصة بحل الصراعات، والثالثة معنية بالمحافظة على الأمن الإقليمي ونزع السلاح، ومن أهم بنودها إخلاء المنطقة من أسلحة الدمار الشامل النووية وغيرها.
سبق أن طرحت بعض هذه الأفكار، ولكن لم يتم تقديمها كحزمة شاملة.. وصفقة متكاملة، تتعامل مع اهتمامات الأطراف المختلفة.
ومن الطبيعي أن يشعر محللون.. أن المقترح طموح للغاية، في ظروف صعبة وغير إيجابية. لكن أهم دوافع الطرح الشمولي الجامع، أن مستوى العنف الراهن في المنطقة، يثير تساؤلات حول إنسانيتنا، فضلاً عن أنه قد يُدخلنا في حلقة مفرغة جديدة.. من العنف والعنف المضاد، ولا توجد مساحة أو وقت للإجراءات والخطوات الجزئية.
وليس من المبالغة، القول إن معظمنا فقد الأمل في عمليات التفاوض التي لا تنتهي؛ ولذا فإن الحزمة المقترحة – على الرغم من صعوبتها – تمثل النهج الوحيد المحتمل، الذي يُنهي النزاع كلية، ويستجيب لمصالح جميع الأطراف، ولاسيما أن حل الصراع على مراحل.. لم يعد قابلاً للتطبيق. وقد حان وقت العمل الشامل، وإذا فشلنا في التحرك.. فإننا سنواجه استمراراً حتمياً للحلقات الدموية المدمرة.. من الصراع العربي-الإسرائيلي.
- وزير الخارجية المصري الأسبق.
نقلاً عن مركز المستقبل للأبحاث والدراسات المتقدمة