عمار علي حسن..
عاد نتنياهو إلى الحرب، ويتحدث مجدداً عن قتل المقاومين جميعاً.. أو استسلامهم بالجملة، ثم تسريحهم.. بعد تسليم أسلحتهم، وتدمير البنية التحتية التي أنشأوها، وفي مقدمتها شبكة الأنفاق وورش تصنيع السلاح، بل نزع فكرة الكفاح المسلح نفسها من الرؤوس.
يبدو هذا وهماً.. قياساً إلى عشرة اعتبارات، يمكن شرحها على النحو التالي:
1- امتلاك المقاومة – طوال زمن الحرب – قدرة على تكبيد القوات الإسرائيلية المتمركزة في قطاع غزة خسائر يومية في الأرواح والمعدات، بل قدرتها على قصف مدن وبلدات إسرائيلية بالصواريخ.
2 – قيام المقاومة بتعويض الفاقد من رجالها.. بتجنيد شباب جدد، رأينا بعضهم يُشارك في القتال بكفاءة، ويحرص على أن يُعلن – قبل الاشتباك أو إطلاق النار من بعيد على مواقع القوات الإسرائيلية – أنه من المقاتلين الذين انضموا إلى المقاومة عام 2024.
3 – اكتساب المقاومة خبرة جديدة في القتال، كان أعلاها «التصويب من المسافة صفر»، وهو أمر لم يتحقق لها.. بهذه الضراوة، أو على هذا المدى الزمني الطويل، في الحروب السابقة التي اندلعت في أعوام 2008 و2012 و2021.
4 – تمكُّن المقاومة من ترميم الشروخ التي أصابتها في الحروب السابقة – سواء على مستوى خبرة القادة الميدانيين أو العناصر المقاتلة، أو الفاقد من التسليح – بالجهود الذاتية أحياناً. وهنا تؤكد التجربة أو الخبرة العملية.. أن الخط البياني للمقاومة ظل في تصاعد دوماً، وهو – إن انكسر قليلاً أو تراجع بعض الشيء، بفعل الضربات الإسرائيلية المتواصلة – فإنه سرعان ما يتقدم من جديد، ليبلغ مرتبة أعلى مما كان عليه في السابق.
لقد بنى الفلسطينيون على كفاحهم المسلح.. منذ ثلاثينيات القرن العشرين، فواصلوه بأدوات بسيطة بعد احتلال غزة عام 1967، لم تتعدَّ صناعة قنابل بدائية لا تزيد على رؤوس أعواد الكبريت والمسامير، وصولاً إلى البنادق وصواريخ محدودة المدى والقدرة التدميرية، حتى أصبحوا قادرين على قصف تل أبيب نفسها، وأقاموا الأنفاق.. التي تُعينهم على مواجهة التفوق الجوي الإسرائيلي الكاسح عليهم.
5 – تعزيز فكرة المقاومة المسلحة في نفوس جيل جديد، ممتد من غزة إلى الضفة الغربية، ولا سيما بعد أن أدرك الفلسطينيون جيداً.. أنهم لن ينالوا شيئاً بالانخراط في هدن متتابعة، أو في تفاهمات مرحلية لا تضمن منع الاعتداء مجدداً، أو الدخول في مفاوضات سلام عبثية ومرهقة ولا طائل منها، أو حتى التعلق بأي أمل كاذب في قيام إسرائيل بما عليها من واجبات كقوة محتلة.
6 – استمرار الحاضن الاجتماعي للمقاومة، وفشل كل محاولات إسرائيل.. تأليب أهل غزة على فصائل المقاومة، بل إن كثيرين من شعب غزة – إن لم يكونوا جميعاً – صارت لديهم رغبة في الثأر من الجيش الإسرائيلي؛ الذي قتل ذويهم، ودمر بيوتهم، وشردهم بعيداً، وأصابهم بالجوع والمرض، وعوَّق حياتهم لسنوات قادمة.
أرادت إسرائيل أن تُنهي هذا الحاضن تماماً، بتبني فكرة تهجير أهل غزة، وطرحت هذا بشكل علني سافر في الأسابيع الأولى للحرب، ووضعت له الخطة، وجاء القصف الممنهج للبنية التحتية للعيش.. ليصب في هذا الاتجاه، حيث قُصفت المستشفيات والمدارس وملاجئ الإيواء وملاذاته، ومحطات تحلية المياه، وشبكات الصرف الصحي، وكثير من البيوت السكنية، وتم طرد السكان من الشمال إلى الوسط، ومن الوسط إلى الجنوب، لكن أهل غزة، ورغم الألم الشديد، تمسكوا بالبقاء، بل استماتوا في سبيله.
7 – تعزيز الفكرة التي ترى أن الصراع صار فلسطينياً-إسرائيلياً، بالدرجة الأساسية، ولا سيما في ظل الموقف العربي.. الذي يأتي – إلى الآن – أقل مما يتوقعه الشعب الفلسطيني في الضفة وغزة، وفي داخل إسرائيل نفسها، وكذلك في الشتات. وهذا يعني أن الفلسطينيين سيميلون أكثر إلى الاعتماد على سواعدهم، ويؤمنون بأن الاستجابة التي تأتي منهم، يجب أن تكون على قدر التحدي المفروض عليهم.
8 – وجود خبرة عسكرية وسياسية إسرائيلية سابقة، تُلقي بظلال سلبية على تعامل تل أبيب مع الغزاويين مستقبلاً، فمن قبل احتلت إسرائيل القطاع سنوات طويلة، فأقامت المستوطنات، وثبتت مراكز بقاء القوات الحارسة والضابطة والقامعة، ولم تقصر في جمع المعلومات والمراقبة اللصيقة والدؤوبة، ولم تتوقف عن اتخاذ إجراءات استمالة أهل غزة، بغية إخماد عزائمهم، لكن كل هذا ذهب سُدى، فاضطرت – في النهاية – إلى تفكيك مستوطناتها، وإخراج قواتها، تشيعها العبارة الدالة التي صكها إسحق رابين، حين قال: «أتمنى أن أستيقظ فأجد البحر قد ابتلع غزة».
9 – تواجه خطة نتنياهو بالرفض.. من قِبَل أطراف خارجية؛ فمصر ترفض بقاء الجيش الإسرائيلي في محور صلاح الدين، وتعتبر هذا خرقاً لاتفاقية السلام.. التي أبرمتها مع إسرائيل عام 1979. ودول كثيرة تعلن عدم قبولها عودة احتلال غزة، وتفكر في إجراءات بديلة.. تتعلق بإدارة القطاع بعد الحرب.
10- هناك خبرة أوسع للمقاومة المسلحة عبر التاريخ – الحديث والمعاصر – تفيد بوضوح وجلاء، بأن أي مقاومة مسلحة قد قامت ضد احتلال، لم تنتهِ تماماً، حتى لو مُنيت بانكسارات أو هزائم مؤقتة، ولا سيما إن كانت هذه المقاومة مبنية على فكرة، فالمقاتلون يُقتلون أو يُصابون أو يتقاعدون، والأسلحة تُدمر، لكن الفكرة لا تموت، إنما تجمع لها من جديد رجالاً.. يترجمونها إلى عمل على الأرض.
وإذا عادت إسرائيل إلى احتلال مناطق من غزة – كما يريد نتنياهو – فإن المقاومة ستكسب مزيداً من شرعية الكفاح، يمنحها لها القانون الدولي.. خصوصاً اتفاقية جنيف، وستنال تعاطفاً خارجياً لا ينطفئ، وستجذب إليها مزيداً من الأنظار المعجبة بها، كلما نجحت في تكبيد عدوها أي خسارة.
لهذه الاعتبارات العشرة، يبقى تفكير نتنياهو – في إعادة عقارب الساعة إلى الوراء، بتصفير المقاومة، أو إخمادها تماماً – هو من قبيل الأوهام، وهذا أمر يدركه بعض ساسة إسرائيل، خصوصاً من المعارضة الحالية، ويدركه أيضاً بعض القادة العسكريين وضباط الأجهزة الأمنية والاستخبارات، بل تدركه الولايات المتحدة الأمريكية نفسها، التي تساند إسرائيل بلا حدود.
نقلاً عن «المصري اليوم»