جميل مطر
أذكر أن لقاءنا الأول كان في الفجالة، الشارع أو الحي.. الذي ما قصدته يوماً إلا لغرض له علاقة بالثقافة أو التعليم، أو لـ «جبر» عظام الذراع عند برسوم المجبراتي. يومها، أقصد يوم تعرفت عليه، انتهزت فرصة الوجود في الفجالة، فلبيت دعوة زميل قديم من أيام المدرسة.. اشترى محلاً لبيع الكتب، وانتهى به الأمر ناشراً.. يُعتد بنصيبه المعتبر من أعمال سوق الكتابة والقراءة والورق والأدوات المدرسية. زرت محله لبيع الكتب وداره للنشر، واعتذرت عن عدم تلبية الدعوة لغداء.. لارتباطي بموعد للقاء مثقفين من جميع الأطياف؛ تنفيذاً لدعوة من شخص لم أعرفه. اكتشفت يوم لبيت الدعوة، كم أن صاحبها وديع وجذاب وعنده ما يقول. وفى الوقت نفسه يتمتع بحاسة قوية.. نادراً ما تجدها عند غيره، وهي حاسة الصبر. خرجت من اللقاء الأول مقتنعاً – أيضاً – بأن الرجل صاحب الدعوة، يتمتع بخاصية سبق أن صاغ لها المثقفون الجدد تعبير.. «الكاريزما».
بعد الفجالة، تعددت اللقاءات بهذا الرجل الوديع ظاهراً، المتقد بالثورة قلباً وروحاً.
جمعتنا السياسة غير الرسمية، وأقصد الأنشطة المتنوعة في ساحات المجتمع المدني. كنت بالفضول قريباً من جماعة «كفاية»، وتيارات أخرى.. بحكم اعتقادي الجازم أن مصر كانت تحت السطح تغلي. مصر تغلي منذ أن تخلت عن النظام الملكي.. المستقر معظم الوقت، وفضلت عليه أنظمة حكم أخرى.. أقل استقراراً؛ بحكم الجدل الدائر دائماً داخل هياكلها وجماهيرها.. حول قضايا الشرعية والأحقية، والطبيعة المؤقتة لسياساتها وبرامجها ونخبها الحاكمة، وموقعها من الدولة العميقة ورؤاها للمستقبل.
جمعتنا أيضاً ثورة يناير منذ أول أيامها. تصادف التقاء إرادتين في وقت واحد. إرادة جريدة الشروق وإرادة التيار المدني الواسع في الميدان. عشت أياماً.. رأيت فيها وقابلت من شباب وشيوخ، يدخلون ويخرجون من باب المصعد.. في الشروق، ما لم أرَ أو أقابل مثيلاً لعددهم ونوعهم من قبل.. أو من بعد. يأتي الرجل ذاته، الذي دعاني للفجَّالة، ثم لدار الشباب المسيحيين في شارع إبراهيم باشا.. لتناول غداء، ومناقشة أمور اتفقنا على أنها بالغة الأهمية. اختلفنا في جوانب، وتوافقنا حول جوانب أخرى؛ لنعود بعد أيام لنناقش غيرها ونتفق ونختلف ونتوافق.
نشبت الثورة. عشنا معاً أياماً مثيرة.. قبل أن تفقد الثورة طريقها. تكالب عليها من كانوا في الخارج وكثيرون في الداخل. أخطأ بعض الناس في تقدير مصائر أمتنا ولم نخطئ. صديقنا وجماعته وجماعتنا – أو بالدقة الممكنة، من مشوا بخطوات صديقنا.. قريباً منه أو بعيداً، ومن مشوا بخطواتنا – كل هؤلاء لم يتبعثروا. ساورهم الشك حيناً حول الطريق.. الذي يجب عليهم سلوكه، وعن مخاطر تنتظرهم، وعن مصير قيم التزموا حراستها، ومصالح يدافعون عنها. هدأت الثورة ولم تنفض.
اختار أصدقاء أن يقضوا بعض وقتهم مع الرجل.. الذي عرفته في الفجالة، جلوساً مع فناجين القهوة والشاي.. في مكان وزمان حددهما بنفسه لهم. أنا اخترت للقاءاتنا مكاناً غير ثابت، وزماناً حراً. كان يجمعنا في السنة لعدة مرات.. عضويتنا – هو وأنا – في مجلس أمناء مؤسسة تُعنى بحقوق وقضايا المرأة. ما من مرة اجتمعنا إلا ورأيته كطفل في حصص الرسم والموسيقى والألعاب. يجلس نادراً ويتقافز دائماً. وبالفرحة الدائمة مسروراً ومهللاً. يقف وسط زهرات المؤسسة، وبطلات إنجاز أهم الأعمال والتشريعات.. الخادمة لحقوق المرأة في بلدنا، يقف يلقي محاضرته بقلب نابض بالمحبة والصدق، ويدير الحوار والنقاش لساعة لا تعرف الملل.
جلس ذات مرة إلى جانبي.. وعيناه تتجولان في القاعة، ثم راح يهمس قريباً من أذنى «يا عم… لك حق في إطلاق صفة الزهرات عليهن. لقد نجحن في صنع نظرية عامة عن قضية النوع، ودور المرأة في مجتمعنا والمجتمعات العربية». تجولت عيناي بدورهما في أنحاء القاعة؛ تتثبتان من وجود كل الزهرات، وبينهن رجال.. كسروا حاجز التمييز، وتدين المؤسسة لوجودهم.. بالكثير من عنفوانها وجودة رسائلها.
خرجنا مراراً.. بعد نهاية اليوم الدراسي أو التثقيفي، نجرب أقدامنا.. كما عودناها في كل مدينة حططنا بها. كانت «التمشيات» فرصة لنتبادل الرأي في حال الأمة. تصارحنا – للغرابة – في فرص عديدة.. أتيحت للمصارحة. أقول للغرابة، لأن المعلم – مثل غيره من الأصدقاء القريبين والمحبين ومثل معلمين آخرين – كانوا يتهمونني بالغموض؛ عنواناً تصطف تحته اتهامات عديدة أقل شأناً. أنا أتكتم ولا أصرح، أهتم بالرأي وليس بصاحبه، أقدم الناس بمواقفهم.. وليس بأسمائهم. أكتب عن مناصب.. أساء إليها وإلينا شاغلوها، وأسماؤهم أتركها لذكاء وقيم قارئ لا أعرفه ولا يعرفني. أنا متهم من «المعلم جورج» بأنني «خزنة» أسرار، لا أبوح بواحد منها.. تافهاً كان أم خطيراً.
مشينا كثيراً على شواطئ النيل. مشينا على شاطئ النيل في المنيا، وعلى الشاطئ في أسوان. لم نكن مرة واحدة بمفردنا. أذكر تمشيتنا في أسوان.. عندما أوقفنا رجل شرطة، ليطلب أغرب طلب من النجم جورج. طلب منه التوسط له لدى السلطة الأكبر في وزارة الداخلية في القاهرة، للموافقة على أمر يعنيه شخصياً. كنت أظن أن المعلم شخص غير مرغوب فيه.. لدى أجهزة السلطة. وأثناء التمشية نفسها، أوقفتنا امرأة تحمل طفلاً رضيعاً، لتتوسل إلى جورج.. الضغط على زوجها، ليعيدها مع رضيعها إلى البيت.. الذي طردها منه، وحرّم عليها دخوله. كان لا بد أن نمر – في طريقنا – على مقهى احتل بالمقاعد والموائد ثلثي الرصيف. لم أعرف مدى شعبية معلمنا بين أهل النوبة، إلا عندما رأيت الرجال يشبون وقوفاً لتحيته، ويتنافسون على توجيه الدعوة له.. للجلوس وشرب الشاي معهم. دائما وفي كل مرة كنت أرى في عينيه بريق.. من يعرف – بتواضع قليل – مكانته عند الناس، وتتأكد ثقته وثقتنا في أنه بالفعل يستحقها.
زُرنا معاً لبنان مرات عديدة.. بدعوة من نشطاء سياسيين متطورين فكراً ونفوذاً. جرت مناقشات صريحة؛ تناولت إحداها ما تناولته مناقشات أخرى جرت معنا في تونس والسودان والمغرب.. حول قضية عودة مصر لتلعب دورها المعهود في سياستها الخارجية.. تجاه قضايا الإقليم، وليس أي دور. قابلنا مسؤولين وإعلاميين كبار.. في منازلهم أو مكاتبهم، يشكون مر الشكوى ذاتها. مشينا على أقدامنا في بيروت.. كما لم نمشِ من قبل، وأكلنا كما لم نأكل من قبل.
انتفض المعلم بالسعادة.. في كل مرة سألوه عن أبطال ميدان التحرير وبطولاتهم، فتكلم وأفاض، ودمعت عيناه. لم يبخل بالحكايات عن الثورة، وعن أحلامه، وعن الشباب، وعن مصر.. التي كانت تولد من جديد.
رحل المعلم جورج، قبل أن نصل إلى توافق حول مصير قضية.. كنا – هو وأنا – قد بدأنا قبل أيام مناقشتها. لن أبوح بجوهرها أو بصفتها، ولا بما تبادلناه من معلومات.. عن أشخاصها، ولا أقول أبطالها. أراد أن تبقى سراً إلى حين يُشفى من مرضه، ونلتقي فنستأنف المناقشة، وفي نيتي على كل حال أن أفعل ما أراد.
نقلاً عن «الشروق»