أحمد الجمال
مرات عديدة – خلال رحلاتي بكندا – أجلس لأراقب سباحة وقفز أسماك السالمون.. في أنهار صغيرة عذبة، وهي تقاوم التيار الذي تمضي عكسه، ثم تحك إناثها الأرض الحصباء تحت الماء.. ببطنها وصدرها، وينزل البيض، لتأتي الذكور فتفرز سائل ذكورتها، ليصبح ماء النهر «لبنياً».. فيما الدببة من بعيد، تلتهم ما تقبض عليه من أسماك. فلا المسافة من عرض المحيط إلى النهر.. وهي آلاف الأميال. ولا التيار المعاكس في النهر، ولا الحصباء، ولا الدببة، ولا عيوني الفضولية.. منعت أرتال السالمون كي تهوي إلى مسقط رأسها؛ كل سمكة تعرف أين فقست البيضة التي احتوتها فتتجه إليها، حتى لو كان نهيراً صغيراً بعيداً.
ولعشرات – بل مئات المرات – وبمجرد أن أصل إلى مشارف القرية التي وُلِدت فيها، وتقع في عمق وسط دلتا النيل.. في المسافة الواصلة بين مدينتي طنطا – حيث القطب الصوفي الولي أحمد البدوي – ودسوق.. حيث القطب الآخر الولي إبراهيم الدسوقي؛ أبادر إلى تغيير لهجتي القاهرية إلى اللهجة الغرباوية، نسبة لمحافظة الغربية؛ حيث ننطق الكلام بلهجتنا.. التي ننطق فيها القاف جيماً صنعانية وقاهرية، والجيم القاهرية والصنعانية ننطقها جيماً معطشة، ثم نلتهم آخر حرف في معظم الكلمات، فيصبح أحمد «أحما» وعبدالرحمن «عب رحما»، ثم أحرص على إلقاء السلام على المارة والجلوس.. ومعظمهم لا أعرفهم شخصياً، وإذا دعيت للجلوس أراعي عدم وضع ساق على ساق، أو تمديد الساقين، أو الاعتذار عن عدم القدرة على شرب الشاي!
أظن أن ما يجمعني والسالمون.. هو الانتماء لمكان خاص بكل منا – أي مسقط رأسه – لإشباع احتياج غريزي.. لا يمكن تحديده، فمثلما أنها متعة قصوى عند السمك.. بالتلاقح والتكاثر، فإنها عندي.. رائحة التراب والهواء، وطعم الخبز والزاد، ورؤية الزروع والضروع وصوت الطيور، ثم صفاء السماء ليلاً ورؤية النجوم، ثم الإنصات في صمت.. لصوت الصمت!
ذلك هو التعريف البسيط البدائي.. للهوية. تعريف يمكن أن يتسع لصياغات متعددة ومركبة، وبالمصطلحات، التي يحتاج البعض للرجوع إلى القاموس.. لمعرفة دلالاتها! فهي عند كاتب مغربي مأخوذة من الضمير «هو» – ومعناه الاتحاد بالذات – ويشير مفهومها إلى الشيء.. من حيث تحققه في ذاته، وتميزه عن غيره، وهي وعاء الضمير الجمعي، بما يشمله من قيم وعادات تشكل وعي الجماعة.. وهي عند بعض علماء الاجتماع – حميد الهاشمي – لها أبعاد ثقافية واجتماعية ووطنية، تجعل من الوارد.. الحديث عن هوية ثقافية، وهوية اجتماعية، وثالثة وطنية.. للجماعة البشرية ذاتها.
فهي ثقافياً.. القدر الثابت والجوهري من السمات العامة، التي تميز حضارة عن غيرها من الحضارات.
وهي اجتماعياً.. الخصائص والمميزات الاجتماعية والنفسية والمعيشية والتاريخية المتماثلة، التي تعبر عن كيان ينصهر فيه قوم.. منسجمون بتأثر هذه الخصائص التي تجمعهم.
وهي وطنياً.. جماع لكل ما سبق، مضاف إليه الاستعداد لبذل كل المستطاع، وحتى التضحية بالنفس.. في سبيل الدفاع عن الوطن وحمايته ورفاهيته.
ولقد شهد تاريخ البشرية دورات زمنية، تعرّضت فيها الهوية لمحاولات الطمس أو الانتقاص أو التحول، ولو تأملنا العصور.. التي شهدت نشأة وهيمنة إمبراطوريات، بلغ بعضها من القوة أن اتسع.. ليشمل معظم أصقاع العالم القديم، أو أجزاء واسعة منه. ويمكن أن نعتبرها – بشيء من التبسيط والتجاوز – الأجنة العملاقة للعولمة، بمفهومها الذي سنتناوله فيما بعد.. أو أنها «البروفات» المبكرة لتلك العولمة. فإننا سنجد كياناً بشرياً، تمكن أن يحوز القوة والمهارة.. ليخرج من حدوده أو منطقته، ليسيطر على بقاع أخرى فيها كيانات بشرية.
وما الإمبراطوريات القديمة.. في الشرق المتوسطي – الممتد جنوب وشرق البحر المتوسط – ثم ظهور إمبراطوريات من شمال المتوسط.. كالإغريقية والرومانية، ثم العودة للشرق ثانية – مثل إمبراطوريات الإسلام الأموية والعباسية والعثمانية – وبعدها رجوع للشمال؛ بإمبراطوريات الاستعمار الحديث.. البرتغالية والإسبانية، ومن بعدها.. البريطانية والفرنسية؛ إلا نماذج لعولمة مبكرة، حيث حدث الصراع بين هيمنة وسطوة وثقافة الغالب الإمبراطوري، ليفرض هويته على المناطق المغلوبة، ويطمس هويتها أو ينتقصها.
من يقرأ تاريخ وجود الإغريق والرومان والعرب.. في المناطق التي حكموها – ومنها محيط شبه الجزيرة العربية (في مصر وشمال أفريقيا والشام والعراق) – سيجد شواهد بلا حصر.. على الصراع «الهوياتي» – إذا جاز المصطلح – وسيجد مظاهر.. لما استطاع به الغالب فرض هويته الثقافية والاقتصادية والاجتماعية. بل وفي المقدمة.. هويته العقيدية الدينية، ومظاهر أخرى لما استطاع به المغلوب.. الحفاظ على خصوصيته، بل والتأثير في هوية الغالب؛ لدرجة أصبح فيها الإغريقي الهلليني «هللينستياً».. بتأثير كبير لمصر والشرق، ولدرجة أضحى مقبولاً بها البصمة العراقية.. في الفقه الإسلامي، وكذلك البصمة المصرية. بل إن البعض لا يستنكفون التمييز بين إسلام البداوة، وبين إسلام البلاد صاحبة الحضارات القديمة.. التي تلعب الأنهار في جغرافيتها الطبيعية والبشرية والسياسية دوراً كبيراً… (وللحديث صلة).
نقلاً عن «الأهرام«