Times of Egypt

لسنا في «جاهلية جديدة» كما تصوَّر سيد قطب (3-3)

Mohamed Bosila
عمار علي حسن

عمار علي حسن

يوجد من يضاهي بين المدلول السائد.. لمصطلح «الجاهلية الجديدة»، الذي صكه سيد قطب وأخوه محمد قطب، وتم تداوله بإفراط.. عند بعض الجماعات السياسية الإسلامية المتشددة. وكذلك مفهوم «الجوييم» – أي «الأغيار» – في بعض الأدبيات اليهودية.. الذي يرى في الآخر: نقيضاً للفضيلة والخير، في ظل تمييز حاد بين اليهود «كشعب مقدس يحل فيه الإله»، وبين غيرهم – الذين هم في نظر اليه – «وثنيون واقعون خارج دائرة القداسة»، وقد اتسع مفهوم «الأغيار».. عند اليمين اليهودي المتطرف؛ ليشمل حتى اليهود من العلمانيين، وهي الذريعة التي على أساسها قام شاب يهودي متطرف.. اسمه إيجال عامير بقتل رئيس الوزراء الإسرائيلي إسحاق رابين.

وفي الواقع العملي، يمكن لفكرة رمي المجتمع المسلم.. بأنه جاهلي، أن تقود إلى اعتبار بلاد المسلمين «دار حرب».. على كل مؤمن بهذه الفكرة، أن يدعو أهلها من جديد إلى الإٍسلام، وأن يقاتلهم إن لزم الأمر، بمن فيهم أهله وعشيرته وقومه، وحتى لو كان فيها ماله وتجارته.

وفتح اتهام المسلمين المعاصرين بالجاهلية.. باباً آخر لـ«نظرية الحكم الإلهي»؛ ففي نظر سيد قطب.. فإن الجاهلية هي حكم البشر للبشر، والذي يعني عبودية البشر للبشر، والخروج من عبودية الله، وتأليه بعض الناس. وهنا يحاول إقناع من ينصت إليه.. بأن السبيل لمواجهة تلك الجاهلية، هي الإنصات إلى من يريدون أن يكون «الحكم لله»، وبذلك تولد فرصة أمام الجماعات السياسية الإسلامية، لتقدم نفسها.. على أنها – وحدها – التي بوسعها أخذ الناس إلى حكم الله، والعمل بشريعته، والذي لا يعدو أن يكون في النهاية.. حكم رجال منهم؛ يزعمون أنهم وكلاء الله في الأرض، أو أنهم القادرون – وحدهم – على تأويل النصين القرآني والنبوي، واستعادة حضور الإسلام في المجال العام.

ويخالف مفهوم «الجاهلية الجديدة».. الرؤية القرآنية والنبوية؛ ففي القرآن جاءت الكلمة في أربعة مواضع، الأول تضمنته آية «َيظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ»، وهي هنا تتصل بالخوف من الموت، وضعف الإيمان. والثاني جاء في آية: «أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ»؛ وهي تتعلق بعدم اتباع أحكام الشريعة، والانسياق وراء الأهواء. أما الثالث فورد في آية: «وَلَا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى»، وهي عن هيئة وسلوكيات النساء. والرابع يظهر في آية: «إِذْ جَعَلَ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْحَمِيَّةَ حَمِيَّةَ الْجَاهِلِيَّةِ»، وهي عن آفة العصبية القبيلة، التي كانت سائدة قبل الإسلام بين العرب.

وبشكل عام، جاء مصطلح الجاهلية في النص القرآني.. في سياق تقويم بعض «المظاهر السلوكية» المرفوضة، التي كانت عند العرب قبل الإسلام، وكان الخِطاب فيها موجَّهاً إلى المسلمين، وليس إلى العرب غير المسلمين. فالجاهلية التي ينتقدها القرآن، تتصل ببعض المشكلات السلوكية، ويمكن أن يقترفها المسلم وغير المسلم. فمعادلة الخير والشر، أو المعرفة والجهل، تشمل البشرية في مختلف أطوارها وعصورها.

أما النبي (ص) فقد حدد مفهومه للجاهلية.. بعد الإسلام، حين قال: «أربع في أمتي من أمر الجاهلية لا يتركونهن: الفخر في الأحساب، والطعن في الأنساب، والاستسقاء بالنجوم، والنياحة».

وبذا، لا يجوز للمسلم أن ينظر إلى المجتمعات الإسلامية.. بعين الكبر في نفسه؛ فيحتقرها أو يحط من شأنها، أو يشكك في عقيدتها. ومن ثم يعمم الحكم بالجهل والانحراف والهلاك على العموم، وهو ما يوضحه حديث النبي صلى الله عليه وسلم: «إِذَا قَالَ الرَّجُلُ هَلَكَ النَّاسُ فَهُوَ أَهْلَكُهُمْ».

أختم فأقول.. إن داخل الحركة السياسية الإسلامية – نفسها – من انتقد مفهوم «الجاهلية الجديدة»؛ فها هو عمر عبيد حسنة، يقول في ثنايا كتابه.. «مراجعات في الفكر والدعوة والحركة»: «لا شك أن الحكم على مجتمعات المسلمين اليوم.. بأنها مجتمعات جاهلية، أورث اعتقاداً داخلياً عند كل جماعة.. بأنها هي الإسلام، أو المتحدث الرسمي باسمه، وما عداها جاهلي، وأنها جماعة المسلمين، وليست جماعة من المسلمين – عملياً – وإنْ أنكرت ذلك نظرياً؛ حتى إن الكثير من الجماعات.. التي ضيَّقت مفهوم الأخوة الإسلامية الشامل، لم تطق توسيع دائرة المشاركة، والخروج بالدعوة.. من نطاق التنظيم والجماعة، إلى نطاق المجتمع والأمة. وإحداث التفاعل بينها وبين الإسلام، ما جعل منها أجساماً منفصلة عن جسم الأمة، ومعاناتها وأهدافها».

إن نعت المجتمع في أيامنا.. بالجاهلية، بدعوى ابتعاده عن الإسلام، وسيطرة تصورات وعادات وتقاليد عليه، يقوم على افتراض خاطئ.. يتوهم أن مجتمع الرسالة، أو ما يسميه سيد قطب نفسه «الجيل الرباني» و«الجيل الفريد».. ممن كانوا مع النبي. وسماهم القرآن.. «محمد والذين معه»، قاموا بقطيعة كاملة مع الموروث المعرفي والاجتماعي، الذي كان سائداً قبل الإٍسلام. فالحقيقة، أن كثيراً مما كان سائداً استمر، وتوازى الموروث مع ما أورده الإسلام؛ طالما أن ما فيه من قيم وعادات وطقوس وحكمة.. لا يناقض الدين الإسلامي أو يتصارع معه، بل إن هناك الكثير من المواقف.. التي تدل على أن الرسول نفسه أقر الكثير مما وجده في مجتمعه، ومارسه وتآلف معه قبل الوحي.

من هنا، يصبح رمي المجتمع بالجاهلية.. مجرد اتهام لا دليل عليه من النص أو الواقع، أو هو موقف نفسي.. نابع من تجربة مريرة، أورثت صاحبها كراهية عميقة لمن حوله، وما حوله، وقد يكون مغالاة في بناء صورة سلبية.. عن الزمن الراهن، ومغالاة أيضاً.. في تصور مثالية المجتمع، الذي كان في صدر الإسلام.

نقلاً عن «المصري اليوم»

شارك هذه المقالة
اترك تعليق

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *