من يتابع بدقة المتغيرات العالمية والإقليمية، في هذه السنوات الأخيرة، سوف يلمس خفوت أصوات المجتمع المدني، وابتعاد عدد كبير منها عن ساحة العمل الأهلي، وغياب أي اهتمام معرفي او إعلامي عن ساحة المجتمع المدني.
اللافت ان المتغيرات العالمية والإقليمية التي تناولناها في اعمالنا المتعددة السابقة، ودفعت لازدهار المجتمع المدني، هي نفسها – في تحولاتها الحديثة – التي دفعت في اتجاه تراجع الازدهار الذي شهده المجتمع المدني في العقد الثالث من القرن الحادي والعشرين. لقد كنا نناقش المجتمع المدني العالمي وأدوار وأشكال تنظيماته وانعكاساتها الإيجابية على المجتمع المدني في مصر والمنطقة العربية، وقامت بدور تشجيعي داعم للمبادرات التطوعية، ونظمت عشرات من المؤتمرات العالمية في ساحة المنظمات العالمية وفي العواصم العربية، ولا شك انها أسهمت في حالة ثراء معرفي غير مسبوقة. وكان محور الاهتمام التأثير إيجابياً في حالة الديمقراطية والمشاركة المجتمعية لإرساء تنمية عادلة شاملة.
مثلما سبق أحد المتغيرات العالمية، والتي ارتبطت بتمويل ضخم ومساندة من الدول الكبرى وهيئات الأمم المتحدة، وبعضها لعب دوره في توفير بيئة قانونية وسياسية مناسبة لعالم المجتمع المدني.
ماذا حدث ليتراجع هذا الدور كثيراً وإلى جانبه الخطاب السياسي الداعم للمجتمع المدني؟
لقد شهد العالم – وما زال – اختلال النظام العالمي وأحداثاً سياسية واقتصادية، تشهد على تراجع قيمة القانون، وتراجع العدالة والإنصاف، وسقوط المبادئ الديمقراطية، واتباع سياسات مزدوجة، بل وسقوط قيمة الإنسانية، وهي القيمة العليا التي تصطبغ بها المبادرات التطوعية.. وتدريجياً على مدى السنوات الأربع الماضية تراجع ما تعارفنا حوله – المجتمع المدني العالمي – وفقد قيمته ومصداقيته، وعزز ذلك توحش الرأسمالية العالمية الهادفة للربح، ومراجعات البشر والأدبيات العالمية للديمقراطية وآلياتها.
إذن المتغيرات العالمية التي أسهمت في إعلاء دور المجتمع المدني في مطلع القرن الحادي والعشرين، هي ذاتها التي تضافرت أحداثها السياسية والاقتصادية في إسقاط المجتمع المدني، بل والتخوف من أدواره على الأمن القومي في غالبية بلدان العالم، وتراجع أولوية المجتمع المدني على الأجندة العالمية.
حديثاً ظهرت كتابات متعددة في الغرب، تراجع الافتراضات التي استندت إليها، رؤية المجتمع المدني آلية مهمة للتحول الديمقراطي، وإحدى أدوات المشاركة المجتمعية، وركزت المراجعات هذه على ما يلي:
– دور الرأسمالية المتوحشة والقطاع الخاص في السعي المحموم للربح، وتركيزه على التبرع والدعم لأطراف تحقق مصالحها (أحداث غزة والضفة الغربية ولبنان التي قتلت فيها الاعتداءات الإسرائيلية عشرات الآلاف).
– سباق شركات الأدوية العالمية نحو تحقيق أعلى ربحية، دون النظر إلى أي اعتبارات إنسانية (منذ كارثة كوفيد).
– إخفاق منظمة الأمم المتحدة في إرساء السلام العالمي وحل النزاعات الدولية، واحتياج المنظمة العالمية وكذلك الإقليمية (جامعة الدول العربية) إلى إصلاح شامل وإعادة الهيكلة.
– أبرزت الكتابات العالمية أهمية إعادة النظر في الدور الذي يلعبه القانون في كثير من دول العالم، واتجهت إلى نقد البيئة الاجتماعية والاقتصادية والثقافية، التي تؤثر سلبياً على التطوع والحوكمة. اتجهت بعض هذه الكتابات إلى تناول مسؤولية تراجع التمويل العالمي، وكذلك التمويل الوطني، لمنظمات المجتمع المدني.
– من أهم ما أوردته هذه الكتابات بشأن مراجعة الافتراضات التي أعلت من دور المجتمع المدني، وكانت انعكاساً لمتغيرات عالمية في جزء منها، أزمات السياسات الاقتصادية في أغلب دول العالم، وارتفاع أسعار السلع والخدمات، وارتفاع التضخم.
ووصل بعض الكُتاب في حديثهم عن هذا البُعد إلى ترجيح النقصان التدريجي في عدد ونوعية المتطوعين، بل وذهب إلى انه في غضون سنوات قليلة سيدير المجتمع المدني، فقط موظفون يتقاضون أجراً.
وهكذا بدأت تظهر كتابات جديدة في المجتمعات الغربية تعيد النظر في المجتمع المدني في ضوء الأحداث السياسية والاقتصادية الحالية، بل وفي ضوء سياسات الهجرة (التي يتم تجريم بعضها إذا دافعت عن المهاجرين)، والخلاصة التي تطرحها هذه الكتابات تؤكد أن تزايد المخاطر في العالم أجمع، سوف يؤثر على فاعلية المجتمع المدني سلبياً، ويزيد من أعباء الدولة.
وأخيراً فإن هذه الأطروحات الجديدة التي تتجه إلى نقد المجتمع المدني ورصد أدواره، اهتمت بتأثير تصاعد الاتجاهات الشعبوية في الولايات المتحدة الأمريكية وفي بعض دول أوروبا الغربية، والتصاعد غير المسبوق في التيارات اليمينية المتطرفة ووصول بعضها للحكم، وهو ما يستقطب فئات جماهيرية عديدة ، ويدعم من التحيزات العنصرية، ويشكك من الانتماءات الوطنية، ويؤثر سلبياً على فرص المجتمع المدني في دعم العدالة والمساواة. تُرى أي دور سيلعبه المجتمع المدني في المستقبل القريب؟.
* أستاذ علم الاجتماع
نقلاً عن «الأهرام»