Times of Egypt

كشف أثري حديث العالم كله! (2) 

Mohamed Bosila
زاهي حواس

زاهي حواس 

تحدثنا في المقال السابق عن جزء من الاكتشافات الأثرية، التي أعلنّا عنها يوم الثامن من شهر يناير الجاري. وقد انتهى بنا الحديث إلى ترجمة النص المكتوب بالخط الهيروغليفي (النقش المقدس) على اللوح الجنائزي، الذي أهداه المدعو جحوتي مس – المشرف على قصر الملكة تتي شيري – إلى روح صديقه، رئيس قائدي العجلات الحربية، مين نخت. وذلك في العام التاسع من حكم الملك أحمس، طارد الهكسوس من مصر، ومؤسس الأسرة الثامنة عشرة، بداية العصر الذهبي للحضارة المصرية القديمة.  

بالطبع لم يصدق علماء الآثار – في العالم كله – أنفسهم وهم يسمعون تلك الأنباء وهذه المعلومات الدقيقة، والمؤرخة بكل وضوح.. عن عصر من أهم عصور الحضارة المصرية، وأقلها كذلك من حيث عدد المصادر المعاصرة لهذا الزمن، وهو ما بين 1550 قبل الميلاد و1525 قبل الميلاد، والذي يمثل فترة جلوس الملك أحمس على عرش مصر؛ لذلك كان لابد من نشر صور اللوحة الجنائزية، وباقي مكتشفات مقبرة نخت مين، المهدى إليه اللوحة من صديقه، جحوتي مس. 

وبعيداً عن الأهمية التاريخية والأثرية لذلك الكشف، فإنه يؤكد للعالم كله.. كم كانت مصر دولة متحضرة ومجتمعاً راقياً يعرف أسمى معاني الصداقة والوفاء؛ ففي الوقت الذي كتب فيه جحوتي مس.. أنه يهدي تلك اللوحة الجنائزية – وما تحمله من صيغ تقديم القرابين – إلى روح صديقه، لكي يجعل اسمه وذكراه تحيا لملايين السنين، كانت أوروبا في ذلك العصر تعيش عصور ما قبل التاريخ، الذي لن تدخله سوى في القرن السابع قبل الميلاد؛ عندما بدأت الأبجدية الفينيقية تنتشر في أوروبا، أي بعد وفاة جحوتي مس بأكثر من ثمانية قرون. 

ننتقل – بعد ذلك – إلى ما كشفنا عنه من عدد كبير من الأختام الجنائزية، وهي عبارة عن أختام قُمعية الشكل.. من الفخار المحروق، وتحمل قاعدة الختم دائرية النص، الذي يحمل اسم وصفة صاحب الختم، ويُكتب عادة في ثلاثة أسطر، إما أفقية أو رأسية. والحقيقة أن ما تم العثور عليه من أختام – يعود إلى نهاية الأسرة السابعة عشرة، وبداية الأسرة الثامنة عشرة – في الجزء الواقع أسفل أرضية معبد الوادي للملكة حتشبسوت، يؤكد ما توصلنا.. من غلق المهندس المعماري سننموت للجبانة العتيقة، وردمها، وتخصيص موقعها لبناء معبد الوادي، والطريق الصاعد لمعبد حتشبسوت بالدير البحري.  

ومن أهم الأختام التي عثرنا عليها ختم مكسور، تبقى جزء كبير من النص المنقوش عليه. يذكر النص أن صاحب الختم يُدعى جحوتي، (غير جحوتي مس السابق ذكره)، وكان هو الكاهن الأول للإله آمون في عصر الملك أحمس. وهناك عدد قليل من نماذج هذا الختم.. تم الكشف عنها من قبل، حيث تؤكد المراجع الأثرية أن مقبرة هذا الكاهن، لم يتم الكشف عنها إلى الآن، وكان المقترح أنها ربما تكون في منطقة دراع أبوالنجا، وهي المنطقة الواقعة شمال الموقع الذي أقوم فيه بالحفائر، ومن المحتمل أيضاً أن نكون قريبين من الكشف عن مقبرة ذلك الرجل. 

ويُعد الكشف عن عدد من أبيار الدفن.. من الأسرة السابعة عشرة، من أعظم الاكتشافات التي بدأت تثري معلوماتنا عن تلك الأسرة المكافحة، التي حملت عبء الكفاح المسلح ضد الهكسوس المحتلين. وفي تلك الأبيار وصلنا إلى غرف الدفن الخاصة بأفراد الطبقة الوسطى، وتم العثور على التوابيت، التي تُعرف في المراجع العلمية بالتوابيت الريشية نظراً لكون رسوماتها غالباً ما تصور أجنحة الآلهة، وهي تحيط بالتابوت، وكأنها تحتضن المتوفى، وتصبغ عليه الحماية من مخاطر وأهوال العالم الآخر. ومن تلك التوابيت تابوت لطفل صغير، لا يتعدى طول التابوت المتر الواحد، وقد وُجد مغلقاً، ويلتف حول الرقبة والقدمين حبل يُستخدم كيد أو حمالة لحمل التابوت منه.  

هذه التوابيت جميعها مصنوعة من الأخشاب المحلية مثل خشب الجميز والسنط، وما عُثر عليه من عتاد جنائزي بسيط للغاية؛ من أقواس وسهام وآلات لغزل النسيج وأوانٍ فخارية وحصر من نبات الحلف. إن بساطة العتاد الجنائزي تعطينا فكرة جيدة عن المستوى المعيشي والطبقي.. لهؤلاء الذين دُفنوا في ذلك الجزء من الجبانة، وكذلك تعكس حالة اقتصاد دولة كانت وقتها محتلة لأكثر من 100 سنة. والمُلاحَظ في دفنات الأسرة السابعة عشرة.. هو كثرة ما يُعرف بالتوابيت النذرية للإله أوزير، وهي توابيت صغيرة لا تتعدى 14 سنتيمتراً من الخشب أو الطين، وتحمل نقوشاً نذرية، وأحد هذه التوابيت كُتب عليه بالخط الهيراطيقي.. أنه من ابن الملك. وفي عدد من دفنات الأطفال – التي تعود إلى نهاية الأسرة السابعة عشرة وبداية الأسرة الثامنة عشرة – تم العثور على دفنات سطحية لأطفال صغار وبها دمى بسيطة رائعة الجمال من الفخار المحروق (التراكوتا)، تمثل كل ما تبقى من عتاد جنائزي لهؤلاء الأطفال. 

وفي العام الماضي، قمنا بنقل أقدم سرير من الخشب والحصير المجدول.. يُكشف عنه في مصر، إلى متحف الحضارة.. لكي يُعرض به، نظراً لأنه أثر نادر وفريد يعود إلى أواخر الأسرة السابعة عشرة، وبداية الأسرة الثامنة عشرة. لقد عُثر على السرير – ومعه إناء فخاري لشرب الماء – داخل حجرة منحوتة في الجبل، ومدخلها عبارة عن ثلاث درجات سلم.. منحوتة في الصخر الطبيعي. ونظراً لموقع الحجرة عند مدخل الجبانة، وعدم وجود أي إشارة لاستخدامها في الدفن، فلقد وصفناها بأنها غرفة لحراس الجبانة.. الذين يعملون بالتناوب. 

وإذا تركنا الأسرة السابعة عشرة، وتوغلنا أكثر في تاريخ الموقع.. فسوف نتأكد أنه يعود إلى الدولة الوسطى، وذلك بناءً على المكتشفات التي قمنا بها، وأهمها الكشف عن تلك المقبرة الضخمة.. التي تعود إلى الأسرة الثانية عشرة. وبعد تدمير معبد حتشبسوت – الذي كان يخفيها – تمت إعادة فتح المقبرة، واستخدامها مرة أخرى خلال العصر البطلمي؛ حيث تمت العديد من أعمال الإضافات، وحفر العديد من حجرات الدفن بها.. حتى صارت المقبرة كقصر التيه. ومن الدفنة الرئيسية بالمقبرة، تم العثور على مجموعة مميزة من موائد القرابين الضخمة.. التي على شكل حدوة الفرس، مصنوعة من الفخار، وعليها تجسيد للقرابين التي يرغب فيها المتوفى.. من لحوم، ورؤوس عجول، وخبز وجعة. هذه الموائد هي ميزة من مميزات الأسرة الثانية عشرة.. يعرفها كل أثري ولا يمكن أن يخطئها. كما تم العثور على قاعدة تمثال واقف.. لموظف يُدعى مونتو أوسر، وعليه نقوش تقديم القرابين. 

لا يمكن لأحد، أن يتصور المجهود الكبير والتكلفة المرتفعة، التي تكبدها المهندس المعماري سننموت.. من خزانة الدولة، لكي يقوم بتمهيد الموقع، وردم جبانة قديمة ضخمة.. من أجل أن يقوم ببناء معبد حتشبسوت الجنائزي، في ذلك المكان بالذات. كثيراً ما تحدث علماء الآثار والتاريخ عن أسباب اختيار حتشبسوت لمنطقة الدير البحري، لكي تقيم فيه أعظم معبد جنائزي، ومنهم مَن افترض أن السبب الرئيسي.. كان رغبتها في أن تجاور مجموعة مونتوحتب الثاني نب حبت رع – مؤسس الأسرة الحادية عشرة والدولة الوسطى! – ومنهم أيضاً مَن قال إن السبب هو وقوع معبد آمون شرق النيل.. على نفس زاوية اتجاه (أكس) المعبد. وبعد كل ما عثرنا عليه، فربما كان السبب هو أن جدها أحمس وجدته العظيمة تتي شيري مدفونان هناك. 

في المقال القادم، بإذن الله، نتحدث عن آثار تلك الجبانة البطلمية الضخمة، التي كشفنا عنها فوق أطلال معبد الوادي، والطريق الصاعد للملكة حتشبسوت. 

نقلاً عن «المصري اليوم« 

شارك هذه المقالة
اترك تعليق

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *