جميل مطر
قرأت أهم الروايات البوليسية.. للكاتبة الإنجليزية أجاثا كريستي، قبل أن أتجاوز منتصف سنين المراهقة. عشت سنوات.. أحلم بكوني صرت محققاً، ركب قطار الشرق السريع.. عندما يكتشف مفتش القطار مصرع أحد الركاب، ويناط بي التحقيق. أو صرت راكباً مستداماً في باخرة نيلية.. تجوب صعيد مصر، وعلى متن رحلة من رحلاتها.. يموت أحد الركاب، وأقوم بالتحقيق في ملابسات موته.. في جو من الإثارة والغموض، وتداخل الأحداث.
كانت قراءة هذا النوع من الروايات – لمراهق في مثل عمري – متعة لا تضاهيها متعة أخرى. كثيراً ما سحبتني هذه الروايات من روتين المذاكرة، حين يتحول إلى ملل متواصل.
***
كانت روايات أجاثا.. المفضلة عندي، ومعها حكايات آرثر كونان دويل.. وبطلها شرلوك هولمز، وأحياناً نادرة.. كتيبات عن مغامرات المحقق آرسان لوبان٫ وهذه الأخيرة.. أكثرها مترجم إلى العربية. أذكر أنني قرأت – في نفس المرحلة العمرية – مذكرات ونستون تشرشل عن الحرب العالمية الثانية؛ ربما لأني وجدتها لا تخلو من الإثارة والمغامرة، إلى جانب أهميتها في توثيق تاريخ هذه الحرب.. لشاب مراهق مهتم بالتاريخ السياسي، وأظن أنها كانت بين دوافع التخصص في دراسة العلوم السياسية.
***
خلفت قراءة رواية أجاثا كريستي – عن جريمة في قطار الشرق السريع – آثاراً في نفسي، لم يأتِ – حتى يومنا هذا – ما يمحوها أو يقلل من شأنها؛ بخاصة على عناصر تأسيس شخصيتي، وتلوين مراهقتي، وترتيب هواياتي.. بما فيها حب السفر.
أعرف، من خلال تتبع تعليقات النقاد، أن هذه الرواية.. كانت وراء الصعود الأسطوري لهذه المؤلفة، وللكتابة البوليسية بشكل خاص.
نُشرت الرواية في عام 1934، ولم تكن رحلات قطار الشرق السريع.. تحظى باهتمام يُذكر لدى الرأي القارئ في بريطانيا العظمى. يستحق الذكر من جانبي، أن رحلات هذا القطار بدأت في عام 1883، وخُطط لها.. لتنطلق من باريس وتنتهي في إسطنبول، مروراً باستراسبورج وميونيخ وفيينا، وبودابست وبوخارست، وكانت الرحلة تستغرق 6 أيام.
***
عشت أحلم برحلة مماثلة، أراقب خلالها سلوك فصيلة من الركاب.. نادراً ما تجتمع في مكان آخر على هذا الشكل والتكوين.
كان بين الشروط المتوخاة.. لحجز بطاقة سفر لرحلة من رحلات هذا القطار، التزام الراكب بارتداء بذلة سهرة، وربطة عنق سوداء؛ عند تناوله وجبة العشاء في العربة المخصصة للطعام.. وفي العربة المخصصة لتناول المشروبات الكحولية والدردشة ولعب الورق.
وقتها كانت الرحلة من لندن إلى البندقية في إيطاليا تستغرق 48 ساعة.
***
حققت جانباً من أحلام سنين المراهقة – عن السفر ليلاً – من خلال رحلات فريق الجوالة.
كنا نستقل من قطار الصعيد.. عربة من عربات الدرجة الثالثة، ونتبادل – فيما بيننا – النوم محل حقائبنا.. التي احتلت مقاعدنا. كانت رحلة أسوان.. الرحلة الأطول في سجل رحلاتي بالقطار، يليها في طول مدة السفر رحلتنا إلى غزة في فلسطين، ورحلتنا التي لا تُنسى وكانت من مدينة – أو ميناء – وادي حلفا في النوبة السودانية إلى الخرطوم.
أذكر عن هذه الرحلة، أننا كنا ننزل من القطار، لنركض بجانبه أثناء مشيه.. ولا أقول «جريه».
لم أركب – في حياتي – وسيلة مواصلات بطيئة.. إلى هذا الحد، باستثناء الريكشو.. في دلهي وبكين وبانجكوك.
***
لم أستخدم عربات النوم في السفر الطويل، إلا بعد سنوات من تخرجي. لم أجربها خلال وجودي في الهند، رغم توفر كل عناصر الإثارة.
هناك قرأت عن رحلات السكك الحديد – وبخاصة الرحلات الطويلة – ووددت القيام بواحدة منها، ومنعنى في ذاك الوقت.. ما سمعته من دبلوماسيين أجانب، عن اجتماع مختلف عناصر الإثارة والتشويق والمغامرة ..إلى درجة – فعلاً – رهيبة.
***
لم أمارس هذه الهواية في الصين، فللسفر خارج العاصمة – في تلك الأوقات – شروط حكومية، تجعله غير ممكن ولا محبذ.
عدت إلى الصين بعد أكثر من عشر سنوات، في رحلة صحفية نظَّمها مركز الدراسات السياسية والاستراتيجية في مؤسسة الأهرام، ولم تكن الشروط تغيرت. قضينا الرحلة نتحرك بالطائرات والسيارات.
أما في إيطاليا – الموقع الثالث في حياتي الدبلوماسية – فقد تمكنت من تحقيق هذه الرغبة.. ربما إلى حد الإشباع، إذ حدث أن توليت – بين مسؤوليات دبلوماسية متعددة – مسؤولية نقل الحقيبة الدبلوماسية.. إلى ومن قنصلياتنا في نابولي وجنوة وميلانو. وكانت ميلانو.. الوحيدة بين القنصليات الثلاث، التى أحتاج السفر لها من روما والعودة.. المبيت في قطار.
كنت أقوم بالرحلة الممتعة مرة كل أسبوعين، وكان يمكن أن تكون أكثر إمتاعاً.. لو لم نكن مجبرين – حسب القواعد – على اصطحاب الحقيبة معنا في القطار.. إلى كل مكان نذهب إليه خلال الرحلة.
***
عاد الشوق، ومعه الرغبة مشتعلة.
هل عودتهما ترجع لما سمعت عن احتمال تسيير وصلة في العام المقبل.. من رحلة من قطار الشرق السريع – في مشروعه المتجدد – تنتهي في أبوسمبل، أم هي المراهقة متجددة بدورها في سن الشيخوخة، مراهقة ظننت أنها راحت إلى غير عودة.
نقلاً عن «الشروق»