زياد بهاء الدين..
بما أن الحكومة – مشكورة – أعادت منذ أيام.. فتح باب النقاش حول مشروع قانون المسؤولية الطبية؛ في ضوء اعتراض المجتمع الطبي، وتحرك نقابة الأطباء، فاسمحوا لي بالمشاركة في التعليق، وإن كان من منظور قانوني محض.
الموضوع الأساسي.. الذي يسعى مشروع القانون للتصدي له، بالغ الأهمية؛ وهو حماية المريض من الأخطاء الطبية.. لمختلف مقدمي الخدمات الطبية،(ويشمل ذلك الأطباء والصيادلة والممرضين والفنيين). وهذا تدخل مطلوب.. من الدولة والبرلمان؛ لأن تنظيم المساءلة المهنية الطبية.. ركن أساسي من منظومة ضمان حقوق المواطنين، وحمايتهم من الاستغلال والإهمال.. في واحدة من أهم الخدمات الاجتماعية، إن لم يكن أهمها جميعاً.
لا خلاف إذن.. على أهمية الموضوع، ولا على ضرورة تنظيمه.. على أسس حديثة، ومتوازنة وعادلة لمختلف الأطراف. ولكن هذه النوايا الطيبة، لم تتم ترجمتها بشكل سليم.. في مشروع القانون المعروض، وذلك للأسباب الآتية:
أولاً: مشروع القانون لا يتناول فقط المسؤولية الطبية، بل يضم خمسة موضوعات مختلفة، لم تكن هناك حاجة لجمعها في نص واحد: (1) مسؤولية مقدمي الخدمات الطبية.(2) الضوابط المهنية العامة.(3) استحداث «اللجنة العليا للمسؤولية الطبية وحماية المريض».(4) صندوق التأمين ضد الأخطاء الطبية. و(5) العقوبات.
والأفضل – في تقديري – أن تأتي الضوابط المهنية.. في مدونة سلوك مهني، أو لوائح.. وليس في قانون. وكذلك أن يتم تنظيم صندوق التأمين من الأضرار الطبية.. في قانون مستقل، تعده هيئة الرقابة المالية، وتتولى تطبيقه.. باعتباره – في جوهره – نشاطاً تأمينياً.
ثانياً: من أهم سمات المدرسة القانونية اللاتينية – التي ينتمي إليها نظامنا القانوني – التفرقة الواضحة بين المدني، والجنائي، والإداري. ولكل منهم أصوله، وفلسفته، وأدواته؛فمن يرتكب خطأ مهنياً، يتعرض للمساءلة المدنية، ويدفع تعويضاً، أو يفقد حق مزاولة المهنة مؤقتاً.. أو للأبد. بينما من يرتكب جريمة عمدية.. يتعرض للعقاب الجنائي؛ المتمثل في الغرامة أو الحبس. ومع ذلك، يمكن أن يتعرض مرتكب الخطأ المهني غير المقصود.. لعقوبة جنائية؛ مثل بعض حالات الإهمال الجسيم، حينما لا يكون الإهمال عادياً.. بل فادحاً؛ إلى الحد الذي يجعله يصل لمرتبة الجريمة.
هذه قواعد عامة.. مستقرة ومعروفة.
ولكن مشروع القانون خرج عنها.. حينما نص على تطبيق العقوبة الجنائية، على مجموعة واسعة من الأخطاء الطبية؛ التي قد لا تصل لمستوى الجرائم، ولا تنطوي بالضرورة على إهمال جسيم. بالإضافة إلى كونها غير محددة الأوصاف.. بالدقة المطلوبة في النصوص العقابية. ويزداد الأمر صعوبة، لأن تعريف الخطأ الطبي – في مشروع القانون – أنه «كل فعل يرتكبه مقدم الخدمة.. لا يتفق مع الأصول العلمية الثابتة، أو آداب وتقاليد المهن الطبية». وهذا ليس تحديداً كافياً.. لتطبيق عقوبة جنائية. وبالتالي، لا يبرر تجاوز الخط الفاصل.. بين المدني والجنائي.
ثالثاً: أن مشروع القانون، ينص على جواز قيام المحكمة – في بعض أحوال وقوع الخطأ المهني من الطبيب أو مقدم الخدمة الطبية – بوقف ترخيص المنشأة الطبية أو إلغائه. ولكن في ظل النقص الشديد.. في المستشفيات والمراكز الطبية، والتكاليف الهائلة.. لإنشائها، فإن الانتقال من محاسبة الطبيب المخطئ.. إلى إلغاء ترخيص المستشفى، يجب أن يكون مقصوراً على الأحوال.. التي يثبت فيها عدم صلاحية المستشفى – أو المنشأة الطبية – لتقديم الخدمة، وليس لخطأ طبيب أو ممرض، أو فني.. مهما كانت جسامته.
رابعاً: فيما يتعلق بالخطأ المهني.. الذي يستوجب التعويض – وهو ليس محل خلاف في حد ذاته – فإن مشروع القانون.. يبدو متجاهلاً لوجود قانون أساسي ومستقر في مصر؛ هو القانون المدني الصادر منذ أكثر من خمسة وسبعين عاماً، والذي يمثل قلب نظام التعويضات في البلد. والأفضل – بدلاً من أن ينشئ القانون الجديد أحكاماً مستحدثة، متعارضة مع تراث القانون المدني – أن يحيل إليه، ويلتزم بمبادئه.. حتى يظل للنظام القانوني المدني وحدته واتساقه.
خامساً: وفيما يتعلق بصندوق التعويض عن الأضرار، فكما سبق القول، يجدر به أن يكون منظماً بتشريع مستقل.. تعده وتشرف على تطبيقه هيئة الرقابة المالية؛ بكل ما لديها من خبرات تأمينية واكتوارية ورقابية، وبما يجعل تنظيم الصندوق المقترح.. منسجماً مع أصول العمل التأميني في مصر.
سادساً: وأخيراً، فإن مشروع القانون.. ينشئ كياناً جديداً باسم «اللجنة العليا للمسؤولية الطبية وحماية المريض»، وهذا ليس غريباً.. ولا خارجاً عن الأعراف الدولية. ولكن مشروع القانون نص على أن تتشكل اللجنة من خمسة عشر شخصاً، منهم قانونيان والباقى أطباء، سبعة منهم يمثلون جهات حكومية، وثلاثة عمداء كليات طب، وخبيران مرموقان، بالإضافة إلى واحد فقط عن نقابة الأطباء. وأظن أن هذا التشكيل.. بحاجة لإعادة نظر؛ للحد من ممثلي الجهات الحكومية، وزيادة الخبراء المستقلين والنقابيين.
■ ■ ■
الحكومة أعلنت عن استعدادها لفتح باب النقاش.. في مشروع القانون، ولها كل التقدير في ذلك. ولكن مجرد إلغاء مادة الحبس الاحتياطي.. ليس كافياً، بل المطلوب مراجعة مشروع القانون كاملاً – فلسفته وأهدافه، والتوازن المطلوب إيجاده بين الأطراف – وهذا يقتضي سحبه من البرلمان، وإعادة عرضه على لجنة جديدة.. من الحكومة، ونقابة الأطباء، والمتخصصين في الطب، والقانون، والإدارة.
فالهدف هو حماية المواطنين من الأخطاء الطبية، وحماية الأطباء من اعتداءات المرضى وأهاليهم، وإقامة توازن صحيح بين الأطراف، وبناء الثقة بين الطبيب والمريض (التي هي جوهر الرعاية الصحية)..بدلاً من إيجاد حالة عدائية بينهما؛ فيصبحان خصوماً في علاقة.. متوترة منذ بدايتها.
■ ■ ■
وكل عام وأنتم بخير، وتمنياتي لكم بالسعادة وراحة البال.. وطبعاً بالصحة !
نقلاً عن «المصري اليوم»