Times of Egypt

قاطرة التنمية المرتقبة.. و(الصغير جميل)!

Mohamed Bosila
محمد عبدالشفيع عيسى 

محمد عبدالشفيع عيسى*

يبدو لنا، أننا أصبحنا مطالبين.. إلى حدّ كبير، بإعادة النظر الجذرية.. في كل ما تعودنا عليه حول مسارات النمو والتنمية، وسبل تحقيق التقدم التاريخي المنتظر.. في الأجلين المتوسط والطويل.
فقد جرت العادة، على أن ننظر إلى عملية التنمية – وما يتفرع عنها من نموّ – على أنها مرتبطة بإقامة «مشروعات» ضخمة، مرتفعة الإنفاق الرأسمالي، ومتقدمة التكنولوجيا بالضرورة، وأن هذه المشروعات تتوزع بين القطاعات المختلفة للاقتصاد الوطني، ولا بأس أن تبدأ بأعمال البنية الأساسية والمرافق العامة، مثل الطرق والجسور ونظم الطاقة وبناء المدن.
وقد أسهمت الدراسات (الكلاسيكية) فى تراث الفكر التنموي في تعميق هذه النظرة برغم ما بدا من عدم جدواها عبر الزمن.

وصحيح.. أنه قد سال حبر غزير، في مراجعة شاملة لسجل الفكر التنموي.. منذ سبعينيات أو ثمانينيات القرن المنصرم حتى الآن. ولكن ذلك اقتصر فيما يبدو على مراجعة «أحجام المشروعات».. دون النظر الكافي لمحتواها الحقيقي. وكان للمنظمات الدولية، والاقتصادية منها بالأخص، دور كبير في هذه النقلة الفكرية، التي سرعان ما تحولت للأسف، إلى مجرد (صرعة)، أي على سبيل ما يسمى (الموضة)..!
فقد تكرر الحديث متواتراً بدرجة عالية، حول تعدد أنماط حجوم المشروعات، فظهر مصطلح Micro Projects، وترجموه بالمشروعات «متناهية الصغر» تارة، أو »الصغرى» تارة أخرى. لكن لم يتغير المحتوى الحقيقي لهذه المشروعات التي ذُكر أنها تلك التي تشغل خمسة عمال فأقل، وتمت مقارنتها أو مضاهاتها بالمشروعات الصغيرة Small والتي تشغل ما بين خمسة وخمسين عاملاً، ثم المشروعات المتوسطة فالكبيرة التي تشغل خمسمائة عامل فأكثر.
وبغض النظر عن الحجم، فلم يُبذل جهد مناظر لتحديد نوعية النشاط الذي تعمل فيه تلك المشروعات جميعا، ولم تتم التفرقة الدقيقة بين ما تتضمنه هذه وتلك.

ولما أخذ يمرّ (الزمن) في بلداننا (النامية) في قارات آسيا وأفريقيا وأمريكا اللاتينية، ولم يتحقق شيء ذو بال من وراء النظرة إلى «أحجام المشروعات«، وخاصة الصغرى والصغيرة منها، فقد أخذ يبدو من الملحّ إلحاحاً شديداً أن نعيد النظر حولها في كل مناحيها تقريباً.
فلقد باتت الظروف المتغيرة على المستويات الدولية والإقليمية والمحلية، في مصر وسائر الوطن العربي، وعلى المستوى العربي ــ الأفريقي، تفرض علينا واجب الاجتهاد من أجل إعادة النظر الجذرية في مسارات التنمية، وسبل تحقيقها، ومن ثم مآلاتها.

  • • •
    ويبدو لنا أنه من المحق فعلاً، إحداث تحول فكري حول شكل وحجم الاستثمارات الرأسمالية، على أن يرتبط ذلك بتحول مناظر في ناحيتين:
  • الناحية الأولى: أن نقلع عن التفكير في مجرد إقامة مشروعات Enterprises، وأن نعاود النظر بإتجاه إقامة «صناعات».. ذات قلب مركزي معلوم، موجّه نحو «تشغيل العمالة»، ورفع الإنتاجية، وتغيير هيكل الاقتصاد.
  • الناحية الثانية: بَعد التحول من «المشروعات» إلى «الصناعات»، أن يتم رسم (استراتيجية) للدور المنتظر من الصناعات تلك – الصغيرة والمتوسطة – مرتبطة على كل حال.. بالصغرى.

استراتيجية التحول المنتظرة، كقاطرة للتنمية المرتقبة تقوم، فيما نرى، على ثلاثة أعمدة أساسية:
العمود الأول: ربط الصناعات الصغيرة بالصناعات الكبيرة – إن وُجدت – بطريقة محكمة، تضع في الاعتبار، تحقيق مرامي عملية التنمية.. في المدى الزمني المتوسط والبعيد. الأمر هنا إذن، لا يتوقف على إقامة «مشروعات».. أياً كانت، ولكن (صناعات).. بالذات.
إقامة المشروعات – وخاصة الكبيرة منها – تلك هي طريقة التفكير لدى (صندوق النقد الدولي، والبنك الدولي)، ومانحي القروض التجارية و«المساعدات التنموية الرسمية».. من الدول الكبرى في (الغرب) وشمال شرق آسيا (اليابان). أما نحن، فنريد (الصناعة) ونحتاج إليها؛ على أن نفهم الصناعة.. في سياق التطور المتسارع عالمياً، ولكن في الإطار ــ المجتمعي الملائم لنا.. من جميع الزاويا.
فلن تقوم صناعاتنا الصغيرة والمتوسطة إذن.. على (الطرق والكباري) رغم أهميتها. و لا على المباني الإنشائية الضخمة، أو المنتجعات.. وما إليها من قصور فارهة، ولكنها سوف – أو ينبغي أن – تتحور حول «تصنيع الزراعة» و«تمدين الأرياف»، وتوجيه (العمليات) الصناعية.. إلى إقامة سلاسل المنتجات السلعية والخدمية، الملبية للحاجات الأساسية – المادية والروحية – لأغلبية المجتمع المسماة Vast Majority.

وهنا يأتي العمود الثاني: في استراتيجية التحول التنموي المنتظر، ويقوم على تشغيل ما كان يسمّى «الأسر المنتجة» والعائلات الفقيرة، وجمهرة الأحياء الفقيرة والجماعات الغفيرة.. في أعمال إنتاجية ذات جدوى اقتصادية واجتماعية؛ بحيث تمزج بين «كثافة العمل «وتطور المحتوى العلمي-التكنولوجي للأعمال الصناعية. وتظهر لنا هنا، أهمية ما يسمى «بالمشروعات الناشئة» أو «البادئة«Start-ups – التي يديرها وينظمها شباب واعون، حاملون لأحدث كلمة قالها العلم الرقمي والتكنولوجيا، فيما يسمى بأعمال البرمجة وما يتعلق بالعنصر الناعمSoft-ware . ولدينا فى مصر.. أعداد لا بأس بها من المشروعات هذه، التي تقدم ناتج علمها الفكري.. الناعم للشركات الكبرى في الدول الصناعية، خاصة من الولايات المتحدة، وأوروبا الغربية، تحلّقاً حول ثورة «السيليكون»، والشرائح الدقيقة، وتكنولوجيتها المشغّلة للأجهزة الإلكترونية كافّة.
ويمكن ربط هذه المشروعات الصناعية-التكنولوجية.. بالأسر المنتجة والعائلات الفقيرة، والأحياء المكتظة والتجمعات الغفيرة، بحيث تشكل حلقات مترابطة في سلسلة التنمية الموعودة.. خلايا إنتاجية حية، مبثوثة في كل ركن من أركان البلاد.

وهنا يأتي العمود الثالث: في استراتيجية التحول التنموي؛ ونعني ضرورة ربط الصناعات الصغيرة والمتوسطة.. بصناعة ذات بُعد تكنولوجي عميق – عبر ما يسمى بصناعة أدوات ومعدات الورش Machine-tools – ونذكر هنا معدات وآلات الخراطة، والفرز والتثقيب، والقطْع وما إليها؛ جزءاً لا يتجزأ من إحداث الانتقال »النهضوى».. في مسيرة الصناعة والخدمات الصناعية؛ تلك الخدمات التي أصبحت تمثل أحدث صيحة لما يسمى بالاقتصاد الخدمي. وبالنتيجة: أنشطة إنتاجية حيّة، في القرى والأحياء الحضرية الكثيفة، تمثل الأذرع الحيّة لعملية التنمية الاقتصادية والاجتماعية، التي يرتبط فيها التعميق التكنولوجي.. بتلبية الاحتياجات الأساسية للمواطنين، ومن ثم القضاء على الفقر من دابره، عبر الزمن.

  • • •
    بذلك كله – في الخلاصة – تكون التنمية عندنا ذات ساقين:
    • الساق الأولى: ممدودة في عمق المجتمع الحىّ.. لتلبية احتياجاته، والقضاء على الفقر، باستخدام العلم والتكنولوجيا، على المستويات كافة؛ بما فيها الأدوات الرقمية.. التي يتعلمها ويتقنها المشتغلون من الأذكياء في كل بقعة.
    • الساق الثانية: مشروعات كبرى للبنية الأساسية والطاقة والمدن الجديدة، حيث (يد تبني، ويد تحمل التكنولوجيا) في رابطة تنموية لا تنفصم. فهل أوفينا بالغرض؟ نرجو ذلك. ولكن على أن نضيف (فذلكة) تنموية ذات بال.. حول ما يُطلَق عليه «الصغير جميل«.

الصغير جميل ..!
ترجع هذه التسمية: «الصغير جميل».. إلى ذلك الكتاب البسيط لغوياً، ولكنه عالى القيمة فكرياً، (لمؤلفه الألمانى الأشهر «مايكل شوماخر») ذلك الكتاب أو »الكتيب».. الذي ملأ الدنيا وشغل الناس في عالم بحوث التكنولوجيا في ثمانينيات القرن المنصرم، بعنوان Small is Beautiful.
في تلك الأيام (الجميلة!) كثر الحديث وتعمّق حول قضية الاختيار التكنولوجي، كأحد الخيارات الأساسية للتنمية الاقتصادية والاجتماعية.

كان الحديث يدور حول الثنائية المتضادة: التكنولوجيا المتقدمة.. مقابل التكنولوجيا الملائمة. وتواتر الكلام حول «الخلطة التكنولوجية».. المناسبة للبلاد النامية، وكان ثمة نوع من التراضي الفكري حول أهمية المشروعات الصناعية الصغيرة.. ذات العمق التكنولوجي المتوسط – أو «الوسيط» – كمدخل تنموي جديد.
وأن هذه «المشروعات-الصناعات».. لن تكون «متقدمة» تكنولوجياً بالضرورة.. وفق المعايير العالمية السائدة، وإن كانت «ملائمة» للظروف والشروط الخاصة.. بالعالم الآخذ في النمو بالذات.

… اندمج هذا التيار التكنولوجي، في أتون الدعوة إلى إقامة (نظام اقتصادي عالمي جديد).. خلال الثمانينيات – ومنذ السبعينيات – تحت شعارات مركزية؛ من قبيل: «إشباع الاحتياجات الأساسية للناس»، و«الاعتماد على النفس».. جنباً إلى جنب مع مواجهة »التبعية» التجارية والمالية والتكنولوجية لعموم «العالم الثالث».. إزاء دول الثالوث الرأسمالي المركزي في الولايات المتحدة وأوروبا الغربية واليابان.

كانت أيام..! قبل أن تهجم علينا صرعة «الليبرالية الجديدة»، ووصايا «صندوق النقد الدولي»، التي أخذت في الانتشار مثل (النار في الهشيم).. منذ منتصف الثمانينيات، لتعمّ وتتوسع في التسعينيات، ومطالع الألفية الجديدة.

ولقد تذكرت ذلك كله، حين أخذت أقلّب الفكر ملياً.. حول المطروح علينا هذه الايام؛ فجالت في خاطرنا دعوة الداعي إلى مزج.. المدخل القائم على التمويل الخارجي للمشروعات العملاقة، بالمدخل القائم على الصناعات الصغرى والصغيرة والمتوسطة.. بتمويل محلي؛ من باطن المدخرات القومية متعددة الروافد على كل حال.
وبذلك يمكن أن يُستعاد المفهوم المتجدد لمقولة «الصغير جميل» في إطار ظروفنا المتغيرة.

  • أستاذ باحث في اقتصاديات التنمية والعلاقات الدولية.

نقلاً عن «الشروق»

شارك هذه المقالة
اترك تعليق

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

For security, use of Google's reCAPTCHA service is required which is subject to the Google Privacy Policy and Terms of Use.