مصطفى حجازي..
شرعت في كتابة هذا المقال.. بعد ساعات من توقيع اتفاق وقف القتل في غزة. وقبل ساعات من سريانه..
ساعات.. قتلت فيها إسرائيل ما يقارب مائة وخمسين فلسطينياً أعزل، ليلحقوا بإخوة لهم، بعد أن مُحيت عائلات بالكامل.. من السجل المدني الفلسطيني؛ في مجزرة الشهور الخمسة عشر، التي مارستها آلة الكراهية والقتل الصهيونية بلا كلل.. بوحشية وغِل وبغضاء، تعافها حيوانات البرية.
لن أتوقف طويلاً.. عند واقع الدمار، أو ألم الفقد، أو فاجعة التشرد والجوع والمهانة.. ولن أماري في سادية المعاناة.. التي تعرض لها كل فلسطيني من أهلنا في غزة، وبشاعة الشعور بالعجز.. بين قريب يخذلهم، وبعيد يتجهمهم، وعدو مُلك أمرهم.. فليس بعد العين أين.
لن أماري فيمن يريدون ألا يقرأوا في «طوفان الأقصى».. إلا رعونة حماس، وسوء تقديرها. أو فيمن يريدون أن يُجَرِّدوا الفعل المقاوم.. من كل قدسية؛ لكون من قام به فصيل فكري.. على غير الجادة، فهذا شأنهم.
وللحياة والإنسانية واقتفاء القدر المكرم بين الناس.. شأن آخر.
ليس لي، ولست معنياً بالضرورة.. في أن أُنفق أعماراً وأوطاناً لكي أجادل- ناهينا أن أقنع- من لا يعون أن الحرية والعدل والكرامة، هي صنو الحياة.. لكل من أراد أن يحيا إنساناً. أو من يريدون – باسم الواقعية والبراجماتية – أن نقبل بقَدَرِ السائمة، بل ونأسى على قَدَرِ السائمة.. إن لم ندركه!.
ولكن ما سنحاول أن نقرأه – بتجرد.. إن استطعنا – هي حقائق لن يخفيها دمار ولا ركام.. حتى وإن كانت غزة كلها، قد صارت ركاماً!.
أربعمائة وسبعون يوماً.. هي عمر تلك المقتلة، ساقت حقائق لكل ذي قلب يعي.
على مدار خمسة عشر شهراً.. وغزة مستباحة تماماً؛ فضاءً وأرضاً وحجراً وبشراً.. ومع ذلك، لم تستطع إسرائيل أن تُخَلِّص – في تلك الشهور – رهينة من رهائنها.. ناهينا عن عجزها الفاضح.. في أن تحدد موقع أي من رهائنها.. فوق الأرض أو تحتها.
إسرائيل ذاتها، التي استطاعت أن تخترق حزب الله اللبناني، والحرس الثوري الإيراني، ونظام الأسد قبل خلعه. بل، واستطاعت.. بتراكم استخباراتي على مدى خمسة عشر عاماً- كما تدعي- أن تبني عملية الإجهاز على حزب الله، وإخراجه – بالكلية – من حلبة الصراع.. في أقل من شهر واحد، بما في ذلك اختراق دائرة قيادته، وقتل كل قياديه.. بأعلى سنامهم السيد حسن نصر الله. إسرائيل تلك، لم تستطع أن تخترق حماس.. قبل السابع من أكتوبر، ولا بعده. فلا هي عرفت نسيج الأنفاق تحت غزة.. ولو من قريب، ولا هي تتبعت أو اغتالت مقاوماً واحدا..ً في غير مواجهة.
حرثت إسرائيل أرض غزة كلها.. بالقنابل، وبقيت عاجزة عن تحديد.. إلا موقع نفق أو نفقين؛ جاءا بمحض صدفة مخزية؛ حتى باتت تتسول أسماء رهائنها.. قيد التحرير؛ وفقاً لما يرشح عن قيادة حماس في غزة، ومتحدثها الرسمي. وحتى لحظة وقف القتل وساعته، يوم التاسع عشر من يناير 2025، وبعد أربعمائة وسبعين يوماً من الاستباحة.
سنة وثلاثة أشهر.. إسرائيل تقتل وتحرق البشر، والحجر، والشجر. تسمم، وتُجوع.. أطفالاً وشيوخاً. وتكذب.. في كل حين. تَدَّعي أن مقاتلي المقاومة.. يأمنون في الأنفاق، ويتركون أهل غزة لمصائرهم. فإذا بها- وبمحض صدفة خائبة- تقتل رمز تلك المقاومة.. «يحيى السنوار»، وهو شامخ يقاتل.. في مبنى صراح على وجه الأرض.. ليلطمهم- حياً وميتاً– بعجزهم.. أكثر منه بكذبهم.
أربعمائة وسبعون يوماً.. يبزغ معنى الإيمان بالوطن، والأرض، والحق السليب؛ كأجلى ما تبزغ في معدن مواطن فلسطيني، يحيا تحت نار الخذلان.. من كل من تلزمهم نصرته، أكثر من نار عدوه الفاجر. ولكن يبقى متجذراً.. في تاريخه وأرضه.
على مدار سبعة عشر عاماً سبقت، مارست «حماس السياسية».. كل الحرام السياسي في حكمها لغزة؛ اتبعت سُنَنَ كتاب الاستبداد والسلطة.. انقلاباً وقمعاً وقهراً وفشلاً. كره أهل غزة منها كل ذلك، وتاقوا للخلاص من حكمها.
ولكن فهم العقل الجمعي الفلسطيني.. أن حماس – وإن باتت فصيلاً ضالاً.. في فعله السياسي، وإن ليس بأفضل.. من سلطة رام الله الضالة أيضاً في أوهام الرئاسة والمراسم – يبقى منها «حماس المقاومة»، الموقنة بأن ما اغتُصب بالقوة.. لن يُسترد بغير القوة. وَعى أهل غزة، بأن «حماس.. ليست عَلَماً على المقاومة. ولكن المقاومة.. قد تكون عَلَماً على حماس، أو غيرها.. متى صدقت حماس، أو غيرها.. فعلهم».
فعلى طول قافلة التحرر الفلسطيني، ستظل «حماس» كاسم بَزَغ ومضى.. ليس بأفضل ولا أسوأ ممن سبقوه؛ شأنه كشأن المقاومين في سبيل حرية فلسطين.. منذ الثورة الفلسطينية الكبرى.. وقادتها الشيخ أمين الحسيني وعزالدين القسام، مروراً بجيش الجهاد المسلح.. الذي أنشأه عبدالقادر الحسيني، ومنظمات «فتح».. بقيادة ياسر عرفات، والجبهات الشعبية والديمقراطية لتحرير فلسطين.. بقيادة جورج حبش ونايف حواتمة، وكل فسيفساء منظمة التحرير الفلسطينية قبل أوسلو، وانتهاءً بحماس ذاتها.
«حماس» إذاً، لون من ألوان طيف الأفق الفلسطيني.. المقاوم على مدار تاريخ النكبة. فصيل كغيره؛ أساء وأحسن.. نجح وأخفق.. اعتمد أولويات مسمومة.. حين سُجِن في أيديولوجيته الإسلاموية. استعدى شعبه.. وهو يجاهر بخصومته لرموز السلطة الفلسطينية، القابعين في رام الله.. ولكنه اجتهد.. في شأن أن تبقى جذوة المقاومة الفلسطينية.. المشروعة والمقدسة.. متوهجه، لا تنطفئ.. حتى يتسلمها غيرها.
«حماس».. ليست كل الطيف الفلسطيني، ولا ينبغي لها أن تكون. وكذلك، ليست حجة على مستقبل فلسطين، وحقوق شعبها، ولا ينبغي لها أن تكون. وعليه، فإن أي تأثيم لجوهر المقاومة، أو محاولة للنيل من قدسية مبدئها.. هو خلط آثم خبيث، لا علاقة له بالاحتساب على «حماس»، أو محاسبتها.
«فلتذهب حماس، وستذهب.. ولكن لتبقى المقاومة، وستبقى»!.
في أكثر سرديات التاريخ.. وحشية وخسة وقتامة وفزعاً، ستقبع جرائم إسرائيل في حق الشعب الفلسطيني – منذ النكبة – في الدرك الأسفل منها، وسيأتي فصل تدنيها في مقتلة غزة.. كأحد أكثر الفصول انحطاطاً وسواداً في تلك السردية.
«ديستوبيا».. مكتملة الأركان والظلال، تلك هي صور غزة.. المرئية والمعاشة منذ السابع من أكتوبر 2023، ولكن تبقى أسطورية الصمود لشعبها.. هي الأكثر ملحمية وإلهاماً، بأكثر مما تسوق الميثولوجيا!
وبالمناسبة – لمن يزايدون على أن فلسطينيي غزة.. كانوا صامدين قهراً وليس اختياراً – فمن قال إن الصمود يأتي صبراً.. على المحامد، وبحبوحة العيش!؟ الصمود يكون في وجه القهر؛ صبراً على المكاره والمكائد، وسخائم القريب والبعيد معاً.
في كل صورة التُقطت لأسرة غزاوية، تنزح مياه الأمطار من حول أطفالها مفترشي الأرض، والأحزمة النارية الإسرائيلية لا تنطفئ، والقصف لا يكف.. كانت أسطورية الصمود.
في كل صورة لأطفال.. يتحلقون حول معلمة، في ساحة مقابر تارة، أو في فصل دراسي.. بين ركام وأنقاض مدرسة تارة أخرى، كانت ملحمية المقاومة.
أطفال متعلقون بأستار العلم، وغير مترخصين فيه.. وهم على شفا الإبادة، هم كلمات وسطور الملحمة.
في كل طبيب ومُسعف، بَذَل روحه وعقله.. ليداوي جرحى المجزرة – وهو محاصر بفوهات الدبابات، وصلف أسافل البشر في جيش الاحتلال.. تحت قصف النار والكراهية معاً.. ولا مبالاة وصمم العالم من جهة أخرى – كانت سردية القوة النفسية الفريدة.. بل والاتزان والسلام النفسي الهائل، التي ستُروى.
في صورة طفل دون السادسة من العمر.. يسير وحيداً، منحنياً في أسماله وبين الأنقاض، يحمل فوق ظهره الصغير.. بعضاً مما تبقى له من حطام داره. إرادة خارقة، لإنسان.. لن تنهزم روحه.
في صورة كل رجل كان.. أو امرأة، أو طفل.. من أهل غزة، ظل يقاوم الموت بالحياة؛ فخرج في لباس مهندم.. قد يكون كفنه، وأصر على استقامة هيئة.. قد تكون آخر ملامحه، وخرج يؤدي عمله في شارع أو مستشفى أو مركز إغاثة.. قد يكون أي منها قبره؛ أسطورية الشجاعة والإقدام، والاستهانة بعدو.. وإن بدا أقوى، فيبقى حقيراً مرتعداً.. أمام تلك القدرة الاستثنائية على تقال الموت دون الكرامة.
أما ما تقوله كل تلك الصور، فهو أنه – وإن كان ركام غزة ودمارها.. واقعاً لا ينكره مبصرٌ ذو عينين – فإن أرض فلسطين، وشعب فلسطين، وحق فلسطين.. في العودة والحياة، يبقون حقيقةً.. لا يعمى عنها، إلا من عميت قلوبهم.
فبقدر ما طمر ركام غزة.. أحلام ومقدرات بشر أعزل مسالم، بقدر ما طمر كذبات كبرى، وكشف حقائق كبرى.
من تحت أنقاض غزة، تبزغ «حقيقة الندية وأهلية الانتصار.. في حضور الإرادة أو غيابها».. في إرادة الحرية وإرادة الحياة.. قبل الارتكان للحق التاريخي.. وفوق كل تباين في موازين القوى.
ومن تحت أنقاض غزة، تبزغ حقيقة يقينية ليست بجديدة.. وإن أردنا تناسيها؛ مفادها أن الصراع العربي-الإسرائيلي.. مازال صراع «وجود»، لا صراع «حدود».. يقين نخافه، حتى لا نفي استحقاقاته. ولكن لن نستطيع مراوغته أكثر من ذلك.
فَكِّرُوا تَصِحُّوا..
نقلاً عن «المصري اليوم»
غزة.. حقيقة تحت الركام

شارك هذه المقالة
اترك تعليق