د. نيفين مسعد
توقّف مقال الأسبوع الماضي.. عند كلام النائب محمد رعد – رئيس كتلة الوفاء للمقاومة بمجلس النواب اللبناني – وعند اعتراضه على حكومة نوّاف سلام.. من باب أن البعض يعمل على الإلغاء والإقصاء، وأن أي سلطة تناقض العيش المشترك.. لا شرعية لها على الإطلاق.
هذا الكلام، يستدعي منّا التطرّق إلى ماهية العملية الديمقراطية، وهي عملية تحتكم إلى التصويت.. كأساس لتولّي المناصب المختلفة؛ سواء كان هذا التصويت بشكل مباشر.. عن طريق الاقتراع العام، أو كان بشكل غير مباشر.. عن طريق نواب الشعب. ومن تداعيات هذا التصويت، أن بعض الكتل التي لا تفوز في الانتخابات، تذهب للمعارضة، وتمارس – من هذا الموقع – دورها السياسي، وذلك في انتظار انتخابات جديدة قد تحملها إلى السلطة.
ومن المفهوم، أن آلية التصويت لا تضمن الديمقراطية بالضرورة، لأن هناك العديد من العوامل.. التي قد لا تؤدي إلى أن تعبّر نتائج الانتخابات تعبيراً أميناً عن إرادة الناخبين، كأن تتفشى الأمية في مجتمع من المجتمعات، أو تشيع ظاهرة شراء الأصوات وتزوير الانتخابات، أو كأن تتعمق جذور الطائفية والقبَلية؛ بحيث يصعب على الناخب أن يتحرّر من أسر الطائفة.. التي ينحدر منها، أو القبيلة التي ينتمي إليها، ولا من توجهاتها التصويتية، حتى وإن كان للناخب تفضيلاته المختلفة.
هذا كله معروف، والنظم الديمقراطية تشتغل كثيراً على محاولة تقليل هذه التحديات.. التي تتعرَّض لها الآلية الانتخابية، ومن ذلك أنها تلجأ إلى رفع مستوى الوعي السياسي، وتقوم بوضع سقوف معينة للإنفاق على الحملات الانتخابية، وقد تأخذ بشكل مؤقت بنظام الكوتا أو الحصة.. من أجل ضمان تمثيل كافة الطوائف، وكذلك النساء والشباب، وذوو الاحتياجات الخاصة… إلخ.
وفي السنوات الأخيرة، زادت الانتقادات لديمقراطية الأغلبية.. على أساس أنها غير ممثّلة بالضرورة، فالقوى التي تستخدم حقها في مقاطعة الانتخابات – إثباتاً لموقف سياسي معين – تسمح للقوى الأخرى المشاركة.. بأن تصل بمرشحيها للمناصب المختلفة، وهو ما يحدث عادةً في ظل صعود التيارات اليمينية.. مع إحجام الشباب والقوى التقدمية عن التصويت. وكثر الحديث عن أنه.. وإن كان من الصعب إلغاء ديمقراطية الأغلبية، إلا أنه من الضروري تطعيمها بآليات الديمقراطية التشاركية، التي تشمل إجراء
الحوارات الوطنية حول القضايا المجتمعية المهمة، واللجوء للاستفتاءات الشعبية، وتفعيل دور الأطر المحلية.. في الاستماع لآراء المواطنين، وإدماجهم في عملية صنع القرارات.
وعندما ننتقل إلى المجتمع اللبناني – على ضوء الكلام السابق – يمكن لنا تسجيل عدد من الملاحظات الأساسية:
الملاحظة الأولى هي أن المجتمع اللبناني مجتمع بلا أغلبية، فعلى الرغم من أنه لا توجد إحصاءات رسمية لنِسب الطوائف.. إلى بعضها البعض، إلا أنه لا يمكن لأي جماعة أن تزعم أنها تمثل أغلبية السكان في لبنان؛ وبالتالي فنحن إزاء حالة خاصة، وربما تكون حالة فريدة أيضاً، حيث تتوزّع 18 طائفة رسمية.. على عدد من السكان يدور حول 5 ملايين و250 ألف نسمة.
الملاحظة الثانية هي أن النظام السياسي اللبناني، يأخذ بمثالثة رئاسات الجمهورية والحكومة والنواب.. بين كلٍ من الطوائف المارونية والسنية والشيعية على التوالي، ويأخذ بالمناصفة بين كل المسلمين وكل المسيحيين.. في كافة المناصب المدنية والعسكرية، وهذا يحقق العيش المشترك، لكنه لا يضمن شكل هذا العيش.
الملاحظة الثالثة تنبع من سابقتها، بمعنى أن التوازنات السياسية بين الطوائف اللبنانية.. هي التي تتحكّم في شكل تعايشها مع بعضها البعض. وللتوضيح، نأخذ انتخابات رئاسة الجمهورية.. قبل الأخيرة على سبيل المثال، وسنجد أن الثنائي الشيعي قام بتعطيل جلسات مجلس النواب لمدة عامين من 2014 وحتى 2016 تمسكاً منه بترشيح العماد ميشيل عون. وتم بالفعل إيصال عون لقصر بعبدا بعد صفقة سياسية بين التيار الوطني الحر وحزب القوات اللبنانية.. في اتفاق مكتوب. ونص البند الثاني من هذا الاتفاق المعروف بـ «اتفاق معراب».. على أنه «في حال رفضت قوى 14 آذار (مارس) ترشيحه – أي ميشيل عون – سواء من خلال مقاطعتها جلسات مجلس النواب، أو من خلال اعتماد أي سبل أخرى ..يتمسّك الطرفان بموقفهما، ويخوضان معركة مرشحهما حتى النهاية».
ومثل هذا النص، يعني أنه تم الاتفاق على احتمال الاضطرار إلى تجاوز بعض القوى السياسية في تيار 14 آذار، رغم أنها ذات ثقل داخل طوائفها. بل أكثر من ذلك، فإن سعد الحريري – الرمز السياسي الأبرز للطائفة السنية – انسحب تماماً من المشهد في عام 2022، واستمرت الإشادة بالتوافقية والعيش المشترك. ولو أخذنا انتخاب رئيس مجلس النواب في عام 2022، لوجدنا أن أكبر قوى في الطائفة المارونية – أي القوات اللبنانية والتيار الوطني الحر وحزب الكتائب – لم تصوّت لصالح انتخاب نبيه برّي، ومع ذلك استمر برّي في رئاسة البرلمان؛ بعد فوزه بـ65 صوتاً مسنوداً بتحالفه الدائم مع حزب الله.
التحليل السابق، يعني أن مبادئ مثل «التوافقية» و«العيش المشترك»، هي مبادئ جيدة جداً، لكن تفسيرها في لبنان.. يحكمه اتجاه التوازن بين الطوائف. وهكذا مالت التوازنات لصالح الثنائي الشيعي في مرحلة معينة، ففرض خياراته السياسية.. بما فيها الاحتفاظ بثلث الحقائب الوزارية؛ لضمان الڤيتو على القرارات الحكومية التي لا تعجبه. وذهب طيف واسع من الموارنة للمعارضة، وخرج تيار سنّي أساسي من المشهد. ونُظِر لذلك كله، على أنه لا يتعارض.. سواء مع التوافقية أو مع العيش المشترك. الآن اختلف الوضع، وبالتالي سيكون هناك إخراج جديد.. لمفاهيم التوافقية والعيش المشترك.
هل يعني ذلك أن يمتنع الثنائي الشيعي.. عن المشاركة في حكومة نواف سلام؟ \ظني أن هذا لن يحدث، وأتمنى ألا يحدث، لأن «سلام» لا يريد أن يكون شيعة الحكومة – إن أتوا من خارج الثنائي الشيعي – بغير ثقل سياسي ولا حاضنة شعبية حقيقية. ولأن الثنائي الشيعي.. أذكى من الابتعاد عن المشهد.
هل وارد أن تشارك حركة أمل وحدها، ويتم تعويض الحصة الوزارية للشيعة.. بعناصر تكنوقراطية من الطائفة؟
كل شيء وارد، لكني أستبعد ذلك أيضاً، رغم أن حركة أمل ظلت تشارك في الحكومة من 1992 حتى 2004 بدون حزب الله مع اختلاف الظروف.
نتمنى للبنان أن ينجز تشكيل الحكومة في أقرب وقت ممكن، وينتقل إلى المرحلة التالية لأن مهامها ثقيلة.
نقلاً عن «الأهرام»