عبد الله السناوي..
عن عمر يناهز المائة عام.. رحل الرئيس الأمريكي الأسبق «جيمي كارتر» – عراب اتفاقية «كامب ديفيد» – باحتفاء ظاهر تقديراً لقوته الأخلاقية، لا لدوره في عقد تلك الاتفاقية.
أسست الاتفاقية – التي وقعت عام (1978) – لنوع من السلام بين مصر وإسرائيل؛ إرثه المر ما يزال حاضراً.. في حسابات ومعادلات أكثر مناطق العالم اشتعالاً بالنيران.
في مذكرات وزير الخارجية المصري «محمد إبراهيم كامل».. «السلام الضائع» – عن مفاوضات وكواليس كامب ديفيد – نسب التنازلات الفادحة.. التي انطوت عليها إلى تدخلات «كارتر»، وتأثيره الكبير على الرئيس المصري. لم يكن «كارتر»وسيطاً ولا محايداً.. بقدر ما كان منحازاً – بصورة شبه كاملة – للطلبات الإسرائيلية.
الاتفاقية انطوت على جملة من الكوارث، ما زالت فواتيرها تسدد حتى الآن؛ «لم تشر إلى انسحاب إسرائيلي من قطاع غزة والضفة الغربية، ولا تضمنت حق الشعب الفلسطيني في تقرير مصيره».
كان ذلك داعياً لاستنتاج.. أثبتت الأيام والحوادث صحته: «لن تؤدي إلى حل شامل، بل ستنتهي إلى صلح منفرد، بينما تظل الضفة الغربية وغزة والجولان تحت الاحتلال الإسرائيلي». هذا ما حدث بالضبط.
توقع مبكراً – قبل إعلان نصوص الاتفاقية – أن تُفضي إلى عزلة مصرية.. عن عالمها العربي، وتهميش أدوارها. هذا ما حدث أيضاً.
فيما يشبه الانقلاب على إرثه – بعد خروجه من البيت الأبيض- تواترت شهادات منسوبة إليه، تنتصر بوضوح كامل للقضية الفلسطينية، التي لم يعرها التفاتاً يُعتد به.. أثناء المفاوضات المطولة، التي جرت في المنتجع الرئاسي بـ«كامب ديفيد».
نُحيت القضية الفلسطينية، لتكريس الحل المنفرد مع مصر. لم يُعر الرئيس «أنور السادات» أدنى اهتمام.. لاعتراضات وزير خارجيته: «أنت مش سياسي يا محمد».
سمحت الصداقة القديمة بين الرجلين.. بمصارحات – غير معتادة – بين الرؤساء ووزراء خارجيتهم؛ فقد ضمهما قفص اتهام واحد.. في قضية اغتيال وزير مالية الوفد «أمين عثمان».. أربعينيات القرن الماضي. كما لم يتوقف عند ملاحظات المستشار القانوني للوفد المصري.. الدكتور «نبيل العربي»، الذي تولى بعد سنوات طويلة.. منصبي وزير الخارجية، والأمين العام للجامعة العربية.
مضى «السادات» قُدماً.. فيما اتفق عليه مع «كارتر»، دون اكتراث بأية ملاحظات جوهرية.. أجمع عليها الوفد المصري. جرى التوقيع على الاتفاقية – وسط أجواء احتفالية – في حديقة البيت الأبيض.. غاب عنها الوفد المصري كله. استقال الوزير احتجاجاً.. بعد العودة من كامب ديفيد مباشرة. بعد شهر واحد، نال «السادات» جائزة «نوبل للسلام».. مناصفة مع رئيس الوزراء الإسرائيلي «مناحم بيجين»!
بصورة بالغة السخرية، وصف الأديب الكولومبي الأشهر «جابرييل جارسيا ماركيز».. حصول رجل بمواصفات «بيجين» – بتكوينه الفكري والسياسي، وتجربته في قيادة عصابات «الهاجاناه».. على أرفع جائزة دولية للسلام – مقترحاً أن يطلق عليها «جائزة نوبل للقتل»!
لم يحصل «كارتر» على الجائزة الدولية.. لدوره في التوصل لاتفاق مصري إسرائيلي، فيما حصل عليها عام (2002).. على خلفية أدواره خارج السلطة؛ في الدفاع عن حقوق الإنسان.. خاصة في أفريقيا. كانت تلك مفارقة أولى في قصة حياة «كارتر».
المفارقة الثانية، أن ذاكرة التاريخ.. احتفظت بالأدوار التي لعبها وزير الخارجية ومستشار الأمن القومي الأمريكي «هنري كيسنجر».. على عهدي «ريتشارد نيكسون» و«جيرارد فورد»، بأكثر مما لعبه هو من أدوار.. كرست في نصوص مكتوبة قواعد اللعبة؛ «كيسنجر» مهندسها، و«كارتر» مكرسها.
كلاهما عاش حتى المائة، واستمر حضورهما العام.. فاعلاً ومؤثراً. الأول.. بقوة حضوره الإعلامي والسياسي. والثاني.. بقوة تأثيره الأخلاقي والحقوقي.
لم يكن «كارتر» شخصية معروفة ولامعة – في صفوف الحزب الديمقراطي – عندما ترشح للموقع الرئاسي، لكن نزعته الأخلاقية.. كـ«مزارع» قادم من الجنوب، أكسبته قوة دفع كبيرة.. في السباق الانتخابي مع المرشح الجمهوري الرئيس «فورد»، الذي حمل عبء التطهر – دون جدوى – كنائب لـ«نيكسون».. من آثام فضيحة «ووترجيت».
صادف شعاره الانتخابي: «لا خداع للشعب الأمريكي».. الاحتياجات الضاغطة. كانت أمريكا تبحث عن «قديس».. لا مجرد رئيس. بعد أن دخل البيت الأبيض.. حاصرته الأزمات، وتقوضت أية رهانات عليه.
بدا شبه عاجزٍ في إدارة ملفات الاقتصاد والنفط والتضخم، وجاءت أزمة احتجاز الرهائن الأمريكيين في سفارتهم بإيران – إثر إعلان الجمهورية الإسلامية – لتفاقم تدهور صورته.
بدا فاشلاً تماماً، وخسر الانتخابات الرئاسية (1980).. في مواجهة ممثل شبه مغمور.. «رونالد ريجان»، يتقن دور الرئيس.. أكثر من الرئيس نفسه!
المثير حقاً، أنه نجح – بعد خروجه من البيت الأبيض – في استعادة الثقة العامة به؛ ارتفعت شعبيته مجدداً.. على خلفية مواقفه الحقوقية والأخلاقية. أخذ سمة «القديس السياسي».. وتراجعت صورة الرئيس الفاشل. كان ذلك استنتاجاً عاماً، تردد على نطاق واسع في الميديا الأمريكية والغربية.. إثر إعلان رحيله.
«ما يحدث في فلسطين.. كارثة إنسانية، وانتهاك لحقوق الإنسان بكافة أشكاله». كان ذلك تصريحاً مدوياً في حينه – أبريل 2015 – ومكانه غزة؛ التي زارها تضامناً مع محنة أهلها.. في الحصار المفروض عليها، باعتباره ناشطاً دولياً في حقوق الإنسان.
في تلك الزيارة، اتهم إسرائيل – أمام الكاميرات – بـ «سرقة أموال الفلسطينيين».
رغم اللغة غير المعهودة من المسؤولين الأمريكيين – سابقين أو حاليين – في تناول القضية الفلسطينية، إلا أن مظاهر الاحتفاء به.. تضررت من تصريحات فلسطينيين عاديين: «لسنا حيوانات، يأتون لزيارتنا.. ثم يمضون إلى حال سبيلهم».
لم تُبدِ إسرائيل ارتياحاً.. لنص ومغزى تصريحاته، حاولت عرقلة زيارته لغزة، لكنه كان صعباً منع رئيس أمريكي سابق.. من دخول الأراضي الفلسطينية المحتلة.
لمرات عديدة.. ارتفع صوته، رغم وهن المرض الشديد.. بأثر التقدم في العمر؛ مندداً بالسياسات الإسرائيلية، التي وصفها بأنها «أبارتايد».. فصل عنصري ضد الفلسطينيين، يشبه ما كان جارياً في جنوب أفريقيا.. ضد مواطنيها السود.
عزا «كارتر» غياب أية عدالة مفترضة.. في النظر إلى القضية الفلسطينية، لقوى ضغط داخل الكونجرس، تمنع أي معارضة لأفعال إسرائيل.
إنه تفسير متأخر.. للانحياز الأمريكي شبه المطلق لإسرائيل، الذي وصل ذروته في حرب الإبادة على غزة.
يقال – عادة – إن التاريخ لا يُكتب بأثر رجعي، لكنه.. بانقلابه على إرثه في كامب ديفيد، بدا ظاهرة استثنائية.. في الحياة السياسية الأمريكية.
نقلاً عن «الشروق»