أحمد الجمال..
كتبت الأسبوع الفائت.. ما أعتقد أنه مدخل معقول لمسألة الهوية في مصر. وأستكمل اليوم، بأن أذكر أن حواراً غير مباشر، يدور على بعض صفحات الأهرام منذ فترة، وبدأ في زاوية كان يكتبها محرر ملحق الجمعة، ليتبنى في سطوره.. تأسيس وتأكيد ما يسمى «هوية القومية المصرية»؛ المرتكزة على تراث العصور القديمة المصرية.. التي درجت تسميتها «الفرعونية»، وهي تسمية غير صحيحة لأسباب عديدة، ليس هنا مجال ذكرها. وما عدا هذا التراث – أي ما يتصل بالحقب التاريخية التالية – خاصة منذ دخول العرب يحملون الإسلام، فإنه لا يُعتد به.
وقد فهمت – وربما أكون مخطئاً – أن نصير القومية المصرية، يضعها في مواجهة مع بقية أطروحات الهوية؛ بما في ذلك أطروحة التعدد التراكمي.. كماً ونوعاً، في سبيكة حضارية ثقافية متماسكة. ولذلك، فقد أخذ نصير القومية المصرية يجتهد، ويستدعي أنصاراً لفكرته، وينشر آراءهم المؤيدة لمذهبه.
ثم كان أن تغير الإشراف على ملحق الأهرام، لتتجه الأمور نحو تلك الهوية الحضارية المركبة.. المتراكمة المتجانسة، ويستمر مذهب القومية المصرية في صفحة أخرى، مثابراً دءوباً.. في تلمُّس كل البراهين المساندة. وهكذا أراني – بحكم متابعتي للأهرام، وبحكم أنني كتبت في سنين خلت.. حول مسألة الهوية – أعود للمشاركة في جدل الهوية، الذي يخبو أحياناً وينتعش أخرى، وذلك مرتبط بظروف موضوعية سأحاول التطرق إليها.
كتبت ذات سنة في «الأهرام»،عن محاولة حاولتها.. لأتبين إجابة عن سؤال هو: هل حدث في مناطق أخرى بالعالم القديم والجديد، ما يشير إلى أن ما جرى في مصر.. إبان دخول العرب وبعده، جرى مثله؟ ووصلت بالبحث إلى حالة بلاد الغال -وتنطق أحياناً الجال -ضمن الإمبراطورية الرومانية؛ وهي تضم فرنسا الحالية وأجزاء واسعة من بلجيكا والأراضي الواطئة، وكان يسكنها ويسيطر عليها القوط الغربيون، الذين كانت لهم لغة وديانة قوطية.. مع لغة الإمبراطورية، وعندما انتشرت المسيحية في المناطق الشمالية، اعتنقتها بلاد الغال.. وفق المذهب الأريوسي المصري، مذهب الطبيعة البشرية للسيد المسيح، لأن القديس أولفيلا كان قد ترجم الإنجيل.. وفق الرؤية أو المذهب الأريوسي الأرياني!
ثم حدث وتحركت قبائل الجرمان، وفيهم فرع رئيسي هو «الفرانكس» أو الفرنجة، نحو الإمبراطورية الرومانية، ليغزو الملك كلوفيس الأول – ملك الفرانكس – بلاد الغال.. ويهزم القوط، وليغير اسمها إلى فرنسا.. المشتق من اسم قبيلته، ويغير مذهبها إلى الكاثوليكية، ويغير لغتها إلى الفرنسية.
واستكملت آنذاك بتندُّر.. هو سؤال يقول: هل يتصور أي عاقل الآن، أن شخصاً يجلس في مقهى باريسي.. ليكتب مقالًا لصحيفة، فيصيح بما في سطوره صارخًا: يا حبيبتي يا غاليا، أي يا بلاد الغال.. لقد جاء غزو الفرانكس، وجاء كلوفيس.. ليغير اسمك ودينك ولغتك،ثم يصرخ ثانية.. بحتمية عودة لغة القوط واللغة اللاتينية؟!
وهو سؤال مقصود مني تماماً، لأنني ما زلت أجد في المقاهي والحانات – التي يفضلها بعض المثقفين – من يصرخ بلعن العرب.. وعمرو بن العاص، ويبالغ في وصف وتفصيل الآثار السلبية.. للتصحر البدوي، الذي اغتصب مصر منذ القرن السابع الميلادي!
والذي جرى في فرنسا.. نموذج، لأن الشعوب الحية – بمثقفيها ومفكريها الفاهمين لحركة التاريخ – تعاملوا مع الأمر.. باعتباره دورات تاريخية متصلة؛ لأنهم يعلمون أن سلالة الفرانكس.. جاءت منها أسرتان عظيمتان في تاريخ وطنهم، هما الأسرة الميروفنجية. والأسرة الكارولنجية. وظهر شارلمان العظيم «سليل المتبربرين الجرمان»، الذي غيَّر أسس الحياة السياسية في العالم المسيحي، لأنه هو الذي لم يسمح للبابا بأن يُتوِّجه كإمبراطور. ومد يده ليأخذ التاج، ويتوج نفسه!
إن الهوية المركبة متراكمة الطبقات، ومتعددة المضامين.. في مصر. أو لمصر.
مثلها بالبلدي.. مثل جاتوه «الميلفاي»؛رقائق متراكمة متلاصقة، عليك أن تقطعها رأسياً وليس أفقياً.. ثم إن المثال الفرنسي – المشابه تاريخياً لما جرى لمصر – له تفاصيل هائلة.. احتواها كتاب شديد الأهمية عنوانه «هوية فرنسا» ومؤلفه فرنان برودل، وصدرت ترجمته التي قام بها الفذ بشير السباعي، في سلسلة المشروع القومي للترجمة، ولن أعرض الكتاب هنا، إلا أنني أدعو كل مهتم بقضية هوية مصر، وتركيبها الحضاري الثقافي التاريخي المتعدد الطبقات.. في سبيكة أو ضفيرة شديدة الإبداع، أن يقرأ عن هويات الأمم الحية الكبرى، وكيف أن مفكريها ومثقفيها.. لم يعمدوا إلى شوفينية ضيقة، تحصر الأمة وتحبسها في زاوية شديدة الضيق، ولم يعمدوا إلى التعسف والاجتزاء.. اللذين يهدران تراث أجيال متعاقبة، تفاعلت مع المكان والزمان والبشر والأفكار، فأثمرت بنياناً ثقافياً هائلاً..بالمعنى الواسع للثقافة.
ولنا بعد ذلك، أن نغض الطرف عن الاشتباك مع أطروحات مبتسرة، لا تصمد أمام حقائق الجغرافيا، والتاريخ، والاجتماع، والتفاعلات الحضارية.. في حوض الحضارات القديمة والوسيطة.
وتبدو أطروحات يراد بها..«خالف تعرف» و«اختلاق أي قضية»، ليشتبك معك آخرون، فيحدث الدوي، حتى وإن كان فشنكاً.
نقلاً عن «الأهرام»
طرقات سريعة حول الهوية
شارك هذه المقالة
اترك تعليق