مع بداية عام 2025، تدخل أوروبا فصل الشتاء محملة بتحديات طاقية جديدة بعد إعلان روسيا وقف صادرات الغاز عبر أوكرانيا، القرار الذي ينهي أربعة عقود من اعتماد القارة على هذا المسار الحيوي. وفيما يتراجع الغاز الروسي في السوق الأوروبي إلى مستويات غير مسبوقة، تتجه الأنظار إلى مدى قدرة أوروبا على تأمين احتياجاتها الطاقية من مصادر بديلة، وسط شتاء يتوقع أن يكون قاسيًا.
أعلنت شركة “غازبروم” الروسية رسميًا وقف صادرات الغاز الطبيعي إلى أوروبا عبر أوكرانيا بدءًا من الأول من يناير. القرار جاء بعد انتهاء العقد المبرم مع شركة “نافتوجاز” الأوكرانية، والذي كان يتيح عبور الغاز الروسي عبر خطوط الأنابيب الحيوية الممتدة بين البلدين. خط الأنابيب الرئيسي “أورينجوي-بوماري-أوزهورود”، الذي لعب دورًا مركزيًا في تزويد أوروبا بالغاز لعقود، بات خارج الخدمة، لينهي بذلك مرحلة مفصلية في العلاقات الطاقية بين روسيا وأوروبا.
الخط الناقل، الذي شهد في العام الماضي عبور نحو 14.65 مليار متر مكعب من الغاز، كان يمثل حوالي نصف صادرات الغاز الروسي المتبقية إلى أوروبا. ورغم تراجع حصة الغاز الروسي في السوق الأوروبي من 35% في 2021 إلى أقل من 8% حاليًا، فإن قرار الإغلاق يفرض واقعًا جديدًا على جميع الأطراف المعنية، بما في ذلك روسيا، أوكرانيا، ودول الاتحاد الأوروبي.
خسائر اقتصادية للطرفين
بالنسبة لروسيا، يتوقع أن تتكبد خسائر مباشرة تُقدر بـ5 مليارات دولار سنويًا نتيجة فقدان السوق الأوروبي عبر هذا المسار، إضافة إلى الخسائر الكبيرة التي تعرضت لها شركة “غازبروم” بالفعل خلال العام الماضي، والتي بلغت نحو 7 مليارات دولار.
أما أوكرانيا، فرغم توقفها منذ سنوات عن استخدام الغاز الروسي المار عبر أراضيها، إلا أنها تواجه خسارة مالية كبيرة تُقدر بـ800 مليون دولار سنويًا، كانت تحققها من رسوم عبور الغاز. ومع ذلك، ترى كييف أن القرار يساهم في إضعاف روسيا اقتصاديًا، ويخدم مصالحها الاستراتيجية في صراعها الدائر مع موسكو.
تداعيات متباينة على دول أوروبا
الدول الأوروبية المتأثرة بهذا القرار تفاوتت في مدى تأثرها، وفقًا لدرجة اعتمادها على الغاز الروسي.
سلوفاكيا، التي تعتمد على الغاز الروسي لتلبية حوالي ثلثي احتياجاتها، حذرت من ارتفاع تكاليف الإمدادات بما يقارب 150 مليون يورو سنويًا. ومع ذلك، تواجه البلاد خطر نقص إمدادات الغاز خلال الأشهر الباردة.
في مولدوفا، الأزمة أشد وطأة، حيث تعتمد الدولة على الغاز الروسي لتشغيل نحو 70% من شبكة الكهرباء. هذا الوضع دفع الحكومة إلى إعلان حالة طوارئ في قطاع الطاقة، مع تصعيد خططها لخفض الاستهلاك وشراء الكهرباء من رومانيا بأسعار مرتفعة.
أما المجر، التي تعتمد بشكل رئيسي على خط أنابيب “تورك ستريم”، فهي أقل تأثرًا نسبيًا، لكنها تستمر في استيراد كميات محدودة من الغاز عبر أوكرانيا لتلبية احتياجاتها بأسعار معقولة.
استعداد أوروبي وتحول في الاستراتيجية
في ظل هذه التطورات، تظهر أوروبا أكثر استعدادًا لمواجهة تبعات توقف الغاز الروسي، مستندة إلى استثمارات ضخمة في البنية التحتية لاستيراد الغاز الطبيعي المسال. محطات الغاز الجديدة التي أُنشئت خلال العامين الماضيين أسهمت في تعزيز مرونة القارة وقدرتها على تأمين الإمدادات من مصادر بديلة، خاصة من الولايات المتحدة وقطر.
ومع ذلك، تبقى الأسعار المرتفعة وتحديات تأمين الإمدادات خلال أشهر الشتاء الباردة اختبارًا صعبًا لاستراتيجية الاستقلال الطاقي التي تبنتها أوروبا منذ اندلاع الحرب الروسية الأوكرانية.
تحول جذري في مشهد الطاقة العالمي
قرار وقف عبور الغاز الروسي عبر أوكرانيا لا يمثل فقط نهاية لمرحلة طويلة من الاعتماد الأوروبي على الغاز الروسي، بل يعكس تحولًا جذريًا في المشهد العالمي للطاقة. أوروبا، التي كانت تعتمد بشكل كبير على الغاز الروسي، باتت تركز على تنويع مصادرها وتعزيز أمنها الطاقي، بينما تجد روسيا نفسها أمام تحديات اقتصادية حادة بسبب تقلص سوقها الأوروبي، الذي كان يعتبر الأهم لعقود.