Times of Egypt

سوريا.. مؤامرتان وثورة (2-2) 

Mohamed Bosila
مصطفى حجازي 

مصطفى حجازي 

تحدثنا في المقال السابق.. كيف يُدفَعُ بركان سوريا – الذي بات يغلي قرابة أربعة عشر عاماً – إلى أن يَخمُد قسراً الآن.. والأهم، كيف يُراد لسوريا أن تكون الصفحة الأولى.. في كتاب الشرق الأوسط الجديد.  

… صفحة سُطرت بالنار والدم لعقود. بَيَّنَّا كيف لتسارع وتيرة الأحداث، وتلاحقها بشكل منهجي – وكأنه يُقرَأ من سيناريو مُعَدٍّ سلفاً – أن يثير بعضاً من استفهام عاقل، قد يلامس التعجب.. فهو تلاحق لاهث، وإن لم يخلُ من إيجابية، فلا تخطئ العين فيه هرولة دولية وإقليمية.. لتعميد سلطة الأمر الواقع في سوريا، ورجلها الأبرز «أحمد الشرع»؛ كبطل تحرير، ومناضل في سبيل الحرية.. نجحت ثورته، ويبني دولته.. متجاوزين كل ما كان من تاريخ الرجل وجوقته، من شطط الفكر ودموية الفعل. وإن لا يُنكَر على الرجل.. رزانة غير مفتعلة، وقدرة على تمثل خطاب رجل الدولة.. حتى الآن. وإن بدا لهاثاً، ظاهره التضامن والمساندة للشعب السوري، الذي نُكِب بنظام عصبة الأسد لعقود، وسُحِق فيه رحيق الحياة. فإنه يلزم أن يثير حفيظة كل من يعي.. كيف تورد الإبل، في النظام العالمي القديم والقائم والقادم. 

فليست فلسطين وشعب غزة منا ببعيد.. فمن تحجَّرت قلوبهم تجاه أطفال غزة العُزل، وشيوخها ونسائها.. وماكينة الحرب الصهيونية تلغ في دمائهم كل ساعة، وبغضاء يهود تل أبيب تتشفى في موتهم جوعاً وجرحاً وبرداً، ودفناً تحت أنقاض. هم هم.. من تَرقّ قلوبهم كذباً لسوريا وأهلها؛ وإن هم من يلزم أن يرق لحالهم، ولأهل فلسطين قبلهم.. كل قلب حي صادق. 

توجَّب أن يُلِحَّ علينا قول عمر بن الخطاب.. فيما نشهده: «أنَّا لسنا بالخبِّ وليس الخبُّ يخدعنا»!. 

وقلنا إن السؤال – الذي لا ينقطع في الوعي العربي – حيرة أو استفهاماً أو قطعاً.. وبعيداً عن ظاهر الأمور إيجاباً أو سلباً – هو.. ما حقيقة الذي جرى في سوريا، أو بالأحرى ما حقيقة الذي يجري في سوريا؟! 

هل هي ثورة من أجل الحياة والحرية.. وقد انتصرت؟ أم أنها مؤامرة قد استحكمت حلقاتها على سوريا وطناً وشعباً؟ 

ومن الوعي بحركة التاريخ.. الذي لا يعيد نفسه، ولكنه يقفي. فإن الذي جرى – ويجري – في سوريا الآن.. هو المحتوم المؤجل، لشأن ما كانت عليه سوريا، وكل ما على شاكلتها.. لسبعين سنة أو تزيد. هو المحتوم الآتي، مهما تأخر. 

أما تفصيلاً. فما نحن بصدده.. مؤامرتان وثورة! 

فما جرى – ويجري – في سوريا الآن.. في قلبه حلم الحرية، والتوق للحياة في ظل العدل والكرامة.. حلم يهدي نفوساً ثائرة، لم يعد في قوس صبرها منزع.. «حلم يقود ثورة.. لا حلم تقوده ثورة»! 

وهو ذاته، الحلم الذي تجاذبته معاول اللئام، ليصير إطاره وناظم حركته.. مؤامرتين؛ مؤامرة تخبو، ومؤامرة يُراد لها أن تستعر. 

مؤامرة أَفُلَت وخبت جذوتها، هي مؤامرة عصبة الأسد.. على سوريا وطناً وبشراً ومقدرات وتاريخاً.. منذ المغتصب الأول حافظ، حتى رعيل مجرميه الأخير.. بشار وماهر. 

مؤامرة لا يمكن إنكارها أو تبريرها، أو التخفف في وصف بشاعتها. فهي أوضح من أن تغفلها عين؛ في مدن بأكملها باتت ركاماً.. في ملايين سوريين أضحوا لاجئين، يتكففون الأمم.. وفي ملايين أُخَر، سُجِنُوا وقُهِرُوا. والأنكى، أمة حُرِمت الحلم.. قبل أن تُحرَم الوطن. 

مؤامرة جعلت سقوط نظام العصبة محتوماً. وجعلت من هذا السقوط – وما مثله – فضيلة واجبة، تأثم الإنسانية.. إن غضت الطرف عنها. كما جعلت من سقوط سوريا الوطن.. كابوساً قيد التحقق، لولا أن تدركنا رحمة الخالق سبحانه. 

فحين يُحتَكرُ الحكم، ويُحتَقَرُ الشعب.. تكون المؤامرة، ويكون السقوط محتوماً. 

ليس ثمة تَزَيُّد، أن قد يكون ما يحدث في سوريا اليوم.. هو عملية تدليس سياسي واجتماعي كبرى، يقودها الإسلامويون.. حتى ينالوا وطرهم؛ من اعتلاء ذرى السلطة بعملية ديمقراطية حقيقية.. ولمرة واحدة، ليحرقوا كل مرتقيات السلطة بعدها. ولتبرز أنياب طغيانهم.. على أسوأ ما تكون، سائرين بذلك على درب سابقيهم.. في أقطار أخرى. 

أو أن ما نشهده، هو تصور أكثر حنكة وتقدمية وحرفية.. مؤداه أن تدخل سوريا عتبات الشرق الأوسط الجديد؛ كدولة شبه موحدة.. شبه مستقرة، ولكن مُنتَزَعة البأس، غير قادرة على تحدي – أو تهديد – أي من جيرانها، وعلى رأسهم إسرائيل.  

… على أن ينعم الشعب – المهان تحت حذاء آل الأسد لعقود – بمجتمع منفتح نسبيّاً، به قدر من الحيوية والحرية، والقدرة على الحياة الكريمة.. وإن ليس بشروطه، وإنما بشروط من يضمنون استقراره، والقادرين على خلخلة هذا الاستقرار، وسحقه.. في أي لحظة. 

وفي ذلك، وجه المؤامرة الأخرى.. التي تحاك خيوطها منذ فجر انتفاضة البسطاء في درعا عام 2011، على هؤلاء الأنقياء.. وباسم ثورتهم؛ مؤامرة أطرافها إسرائيل والولايات المتحدة وتركيا.. وبعض من محيط عربي، لاستغلال زخم الثورة، وحقيقة نبل طلب الحرية.. لبناء كيانات مرتزقة موالية؛ تكون معاول الهدم، ومخالب السطو والاستغلال.. لمستقبل الشعب المسالم. مؤامرة قد تكون رهن التنفيذ الآن.. بوجوه وأسماء سورية، ولكنها ليست في حقيقتها كذلك..! 

أما الحقيقة الوحيدة الباقية – بين واقع هاتين المؤامرتين – فهي حقيقة ثورة، فيها الحلم والعقل والوطن. ولكنها حقيقة.. مشروط حضورها، بحضور أهلها. وهم «الأمة السورية». 

فرغم خسة المؤامرات التي جرت – وتجري – تبقى كلها.. هامشاً على متن الحياة، حين تتنادى القوى الحية في سوريا، لتتمثل مسؤوليتها تجاه وطنها ومستقبلها. 

تلك القوى الحية، هم المؤهلون من أبناء الأمة السورية.. القادرون على حمل مسؤولية تحقيق الحياة المستحقة، لمواطن سوري حر مكرم. وتأتي أهليتهم، في قدرة حقيقية – غير مدعاة ولا منتحلة – على الإبداع والقيادة، قبل البزوغ والزعامة. 

هي القوى الحية، التي يلزم أن تتنادى.. لخلق إطار تأسيسي، هدفه إيجاد الكفاءات المؤهلة في كل مجال؛ كي يصبحوا عنواناً للحكم الرشيد، ويحملوا مؤنة مؤسسات الدولة القادمة. وأن تتكاتف لحماية نفسها.. من الاغتيال المعنوي والمادي، ومن أن يصيروا صرعى المسوخ؛ تضحيلاً وضياعاً.. في بحر من اللغو باسم السياسة. 

ولن تصبح تلك القوى الحية – من الأمة السورية – مؤهلة للحكم، إلا حين تعي معنى الأمن القومي، وتعي أكثر.. أنه يغيب، يوم تغيب حقيقته!. 

فيوم تُختَزَل قضية الأمن القومي.. في بسط السيادة على التخوم والحدود و«فقط». وفي القدرة على رد الاعتداء المباشر.. عن الحدود القانونية للدولة، يعد ذلك تبسيطاً مخلاً. وحتى حين تُتَنَاول القضية بمقاربة أعمق.. فيها الأمن المائي، وترويض فقر الغذاء والطاقة.. يبقى الأمر بعيداً عن جوهر حقيقته..! 

فعلى تلك القوى الحية.. المؤهلة، أن تعلم أن جوهر الأمن القومي.. يبدأ – وينتهي – في وجود «معنى لوطن»، يسكن وجدان إنسان.. يشعر بأنه منتمٍ لهذا «المعنى».. وبأن قيمة وجوده لا تكتمل، إلا بتبادل الولاء بينه وبين هذا الوطن.. تاريخاً وجغرافية وثقافة وحضارة وعرفاً. وأكثر من ذلك، أن هذا الإنسان موقن أنه.. يملك من وطنه كل ذلك. 

وفي استعادة هذا «المعنى».. كل أمل – وأي أمل – في إنقاذ أو إصلاح. 

ويقيناً.. ستغادر سوريا، وأي سوريا، عنت اللحظة. ونبدأ في طريق إنقاذ وإصلاح فقط.. حين تشرع في بناء الأمن القومي بحق. حين انتقال الحديث عن «تحرير المواطن نفسياً» أو عن تحقيق «الكبرياء الوطنية المستحقة». وإذا لم نعتبر أن الحديث عن «الحق في الحياة والحرية واقتفاء السعادة».. من قبيل الرفاهية، أو طنطنة المثقفين. 

كما أنه لن تغادر سوريا – وأي سوريا – اللحظة، إلا حين يكون لها «عقل مؤسسي» جديد.. «عقل مؤسسي»، توجَّب أن يبنى.. تحت قصف الجهالة والتآمر.. في حالٍ أو تالٍ. 

«عقل مؤسسي»، تجسده نخبة مستقبل.. وإن تغضب، لا تُسجَن في غضبها. وإن تشعر بالعجز واليأس حيناً، توقن أن العجز واليأس ليسا قدراً. تعرف أن تجاوز تدني الواقع وأخطاره وعواره.. ضرورة. ولكن تعرف أكثر، أن بناء ما بعد الإزاحة.. هو طريق المستقبل الأولى بالاستشراف، وبالعمل عليه. 

نخبة تتمثل قيمتها.. في «أهليتها»، لا في نجوميتها، ولا في سطوتها.. أو مواقع سلطة تعتليها! 

قيادتها المستحقة.. ليست بالرمزية الأيديولوجية، ولا المحاصصة الطائفية، ولكن بالقدرة على مجابهة تحديات الواقع.. سياسة واقتصاداً وتعليماً، وإعلاماً وأمناً وصحةً وموارد.. بـ«مقاربات مبدئية»، تغير من جوهر واقع الحياة، إثراء ونماءً. 

نخبة موجودة في شتات داخل.. أقسى من شتات خارج.. عليها أن تؤهَّل لتجيب عن أسئلة الحقيقة.. في شأن كل مؤسسة. فعليها أن تسأل وتتحاور، وتبلور الطريق.. في سياق «منتدى أزمة» – قوامه الشغف والمسؤولية – لزم أن ينشأ في قلب كل مؤهل حالم بوطن ومستقبل، قبل أن تنجرف في تفصيلات.. يكمن الشيطان فيها؛ في حوار وطني.. أو غير وطني! 

ففي شأن السياسة، على الكل أن يسأل لماذا سياسة؟ لأي صيغة سلطة وحكم نسوس؟! لخلق صيغة حكم، تضمن عقلاً جمعيّاً كفؤاً، ومجتمعاً يعي قضاياه، ويحكم فيها؟ أم لتكريس استبداد فرد أو جماعة أو مؤسسة؟! 

ولماذا اقتصاد.. لكي نطعم بطوناً جائعة، ونسد أفواهاً لا تؤمن عقبى بقائها فاغرة؟! أم لكي نبني وجدان مواطن.. على الكرامة وتحرر العقل، والإرادة.. لنجني ذلك إبداعاً وقوة؟! 

وكذلك لماذا إعلام.. لِنُعلِم؟ أم لِنُعَلِّم؟ أم لِنُلَقِّن؟.. لِنُرشِد؟ أم لِنُرَشِّد؟! 

ولماذا تعليم.. لخلق كوادر للتوظيف؟ أم لتنشئة أناسي متحققين مبدعين مقتفين للسعادة محققين لها؟! 

ولماذا ثقافة.. للترفيه والتسرية؟ أم للتنميط والتلقين؟ أم للحض على الفكر والإبداع والتحقق؟ أو بالأحرى؛ للحض على الحياة.. على الجمال.. وعلى السعادة؟! 

وإن بدا أن أهل المؤامرة في سوريا وغيرها، لديهم ما يقرأون منه ويلتزمون به.  

… لديهم – دون تزيد – «أطروحة مؤامرة»، فالوجل على القوى الحية.. المؤهلة.. في كل سوريا، وليس في وجود المؤامرة، وأهلها، وخطتها. ولكن في غياب الشغف، والهم والشغل.. من تلك القوى الحية.. ببناء «أطروحة أمة» و«أطروحة وطن». 

فَكِّرُوا تَصِحُّوا.. 

نقلاً عن «المصري اليوم» 

شارك هذه المقالة
اترك تعليق

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

For security, use of Google's reCAPTCHA service is required which is subject to the Google Privacy Policy and Terms of Use.