أحمد الجمال
مطلوب من كتَّاب – جمع كاتب – المقالات.. فاتورة إلكترونية، وإلا لن يحصلوا على مستحقاتهم.
وبالمناسبة، فإن مستحقات العبد لله من الكتابة في «الأهرام» و«المصري اليوم»، أقل مما يتقاضاه السيد
المواطن المحترم العامل «الفراش»، الذي يقوم بعمل الشاي وتنظيف المطرح من التراب.. هذا غير
النفحات في مواسم الأعياد ورمضان، ودخول المدارس، ودخول الشتاء ومقدم الصيف، وهي نفحات
عينية ونقدية.. ومش عاجبه!
تذكرت هذا الموضوع؛ بينما كنت أجمع المادة العلمية لهذا المقال، وأفككها وأعيد تركيبها وصياغتها..
بشكل يصلح لصحيفة يومية، مع قليل من البهارات الشخصية، التي تختلف بين كاتب وآخر.
ولا أدري.. هل مصلحة الضرائب تضع في حسبانها الجهد الذهني والبصري والعضلي، الذي يُبذل في
إعداد البضاعة.. التي اسمها مقالات أو أبحاث أو إنتاج ذهني، لم يتحول إلى أشكال أخرى؛ مثل الأفلام
السينمائية، أو المسرحيات أو المسلسلات التليفزيونية، أو البرامج الإذاعية.. لأنني أتذكر أن الرئيس
السادات – رحمة الله عليه – كان قد أعفى هذا المنتج من الضرائب، ما لم يتم تحويله إلى ما ذكرت.
وربما لا يدرك السادة الضرائبيون.. الفرق بين مقال لم يتكبد كاتبه مشقة البحث والتنقيب في المصادر
والمراجع، ومقال أو خاطرة من وحي الحدث واللحظة، اعتمد فيها الكاتب على مخزونه الذهني من
مناهج التحليل وطرائق التناول وخلافه.. ما علينا.. لأنني أنوي التوقف عن الكتابة، تفادياً للتعقيدات ووجع
القلب!
كنت أطالع بعض أجزاء كتاب «الكامل في التاريخ» لابن الأثير، ومنه اتجهت لخطط المقريزي، والخطط
التوفيقية، وعجائب الآثار للجبرتي؛ لأنني وجدت أمامي كلاماً عن «الروك الناصري». وقبل أن يظن
البعض أنه أمر يُنسب لعبدالناصر والناصرية، ولذلك أكتب فيه، فإنه عبارة عن مسح الأراضي
المصرية.. في عهد السلطان المملوكي الناصر محمد بن قلاوون.
وبحثت عن أصل كلمة «روك»، فوجدت ترجيحاً بأنها قبطية مصرية قديمة، أصلها «روش»، ومعناها
قياس الأرض. وتطورت لتصبح «روك»، أي قياس الأرض بالفدان وتثمينها، بمعنى تقييم درجة
خصوبتها، لتقدير ما عليها من خراج.
وقد عرفت مصر منذ الغزو العربي عديداً من الـ«روك»؛ أولها روك رفاعة عامل، أي مسؤول خراج
مصر.. على عهد خلافة هشام بن عبدالملك، سنة 97 هجرية. ثم روك ابن الحبحاب سنة 110 هجرية، ثم
روك ابن مدبر سنة 253 هجرية.. في خلافة المعتز بالله الفاطمي، ثم روك الأفضلي 501 هجرية، ثم
روك الصلاحي زمن صلاح الدين الأيوبي 572 هجرية، ثم الروك الحسامي – نسبة لحسام الدين لاجين –
في 617 هجرية، ثم روك الناصر زمن قلاوون 716 هجرية، ثم التربيع العثماني على عهد السلطان
سليمان القانوني 923 هجرية.
وندخل للعصر الحديث، حيث مسحت مُصر مرتين في عصر محمد علي؛ مرة سنة 1813 ميلادية، قام
بها المعلم غالي القبطي ومحمود بك عزت، والثانية سنة 1834 – بعد بناء القناطر الخيرية – ثم في عهد
سعيد باشا 1854- 1859، وعهد إسماعيل 1897، وفي 1889 قامت مصلحة عموم المساحة المصرية
بمسح شامل استمر حتى عام 1907، ونظراً لتفتت الملكية، كان مقياس رسم خرائط هذا المسح هو واحد
على أربعة آلاف وواحد على ألفين وخمسمائة.. ثم كانت المساحة الحديثة عام 1932!
وكان كل روك يترتب عليه آثار مباشرة، أهمها وأخطرها هو الضرائب التي تُفرض على المصريين –
الذين كلما أمعنت قراءة مصادر ومراجع تاريخنا – أجدنا أتعس شعوب الأرض معاناة ممن حكمونا،
سواء بما سجله الفلاح الفصيح.. في إحدى حقب مصر القديمة، أو بما ورد في مصادر تاريخ الحقب
الإغريقية-الرومانية، ومن بعدها العربية الإسلامية!
ولعل ما ترتب على روك السلطان المملوكي الناصر محمد بن قلاوون، يُعد مثالاً قد يكون وصفه
المناسب هو قول المتنبي:
وكم ذا بمصر من المضحكات.. ولكنه ضحك كالبكا.
ترتب على الروك المذكور فرض أربع عشرة ضريبة، تبدأ بضريبة «مكس ساحل الغلّة»، ويتحصل منها
في السنة أربعة آلاف ألف وستمائة ألف درهم «أربعة ملايين وستمائة ألف».. تذهب للسلطان، ثم لكل
مُقطَع – ميم مضمومة – «وهو الشخص الذي فاز بإقطاعية تحصيل الضريبة»، وهم أربعمائة شخص،
لكل منهم عشرة آلاف، ثم لكل من الأمراء أربعون ألفاً. وليحلّ بالناس بلاء شديد وتعب عظيم.. من
المغارم، ومن الظلم على يد «نواتية» – جمع نوتي – تسرق، وكيالين تبخس، وشادين وكتَّاب.. يريد كل
منهم شيئاً، وكان مقرر كل إردب درهمين ونصف تذهب للسلطان، غير ما كان ينهب ويسرق.
وكان لهؤلاء المقطعين «المسؤولين» مكان، يسمى «خص الكيالة» في ساحل بولاق. ولمن هو من أصول
فلاحية مثلي، فإن الخص – في الأصل – هو مساحة صغيرة من الأرض.. على رأس الحقل أو الغيط،
تحاط بحزم «قتاية» من أعواد حطب الذرة أو القطن الجافة، لتلتقي أطرافها العليا على شكل مخروطي،
أو تشد على الجوانب الأربعة.. بعد تثبيتها في التراب، ويكون سقفها من قش الأرز الجاف.
وللحديث صلة مع روك السلطان الناصر بن قلاوون، ومع ذكريات قديمة عن المقاييس والمكاييل التي
عرفها ريف مصر.. واندثرت.
نقلاً عن «المصري اليوم»