محمد عبدالشفيع عيسى..
منذ «طوفان الأقصى» في السابع من أكتوبر 2023، تم افتتاح فصل جديد – إلى حد بعيد – في تاريخ البشرية والعالم المعاصر.. وكذا في تاريخ العلوم الاجتماعية.. وخاصة علم القانون والقانون الدولي العام. يعود هذا الفصل – الجديد في تاريخ البشرية والعالم المعاصر – في أصوله الأولى – إلى تاريخ القتل والقتال، كشكل مخصوص من العنف الشامل المنظم.
ذلك هو تاريخ الحضارة – من أسف – حيث الحضارة.. قرينة الحرب، والعنف الشامل، والقتل، والقتال المنظّم.
هذا ما انتبه إليه سيجموند فرويد – رائد علم النفس التحليلي في العصر الحديث – معتبراً الحضارة والحرب صنويْن.. لا يفترقان. وأما قبل ذلك، فإن المجتمعات – في عصور ما قبل التاريخ، وفي مراحل تاريخ البدائية – لم تكن تعرف «الحرب»..بمعناها المعلوم.
ذلك يذكرنا أيضاً بكتاب الفيلسوف هربرت ماركوز – رائد الدراسة الفلسفية حول «الإنسان» المعاصر، في ظل «حضارة البُعد الواحد» – وهو مؤلف كتاب Eros and Civilization و«إيروس» هو إله الحب أو العشق عند الإغريق القدماء، وترجمه «جورج طرابيشي» بعنوان «الحب والحضارة». فإذا الحب – كالحرب – نتاج التحضر (أو «التمدن»)..على أنقاض الفطرة «البدائية» الأولى.
وكما أن استراتيجيات الحروب في العصور القديمة (كما في الصين القديمة ومصر القديمة والشرق الأدنى) وليدة المدنية – ولو في أشكالها الأولية – فكذلك كانت استراتيجيات الحب والتزاوج، وأنظمة الزواج والاقتران.. بين الرجل والمرأة، نتاجاً تدريجياً – بل وبما تدرُّجياً أيضاً – لعملية التحضر أو التمدن، المقرونة بالانتقال من نظام اجتماعي إلى نظام آخر. فقد تحقق الانتقال من «اللانظام» الأوَّلى primitive إلى النظام الاجتماعي الجماعي (أو المشاعي) ثم العبودي، وإلى الأسرة «الأمومية»، وكذا إلى حضارة الحجر والنار والحديد، ومن مجرد الصيد والقنص وقطف الثمار إلى الزراعة بالذات.
… هكذا إذن.. سيرة الحرب والحبّ، والتحضر، والزرع والضرع، نشأت وتطورت معاً إلى حد بعيد.
- • •
من عجب – وإن كان لا عجب – أن يؤدي «التحضر الإنتاجي»..من خلال الرعي والزراعة، إلى تشكيلات اجتماعية طبقية.. ذات طابع تراتبي جامد؛ بدءاً من العبودية، إلى الرأسمالية المعاصرة.
وبذلك نشأت نظم «التفرقة» بين البشر – حسب مواقعهم التدرجية من النظم الإنتاجية – من خلال «الإقطاع»،وما يسمى «أسلوب الإنتاج الآسيوي»، في العصور القديمة والوسطى. إلى رأسمالية الربح والأجر في العصر الحديث.
وتوالدت، ثم ترسخت..المظالم القائمة على «القمع»، قمع النشاط الاقتصادي والسلوك العاطفي. وتم تقنين الظلم والقمع، من خلال بعض أنظمة الحرب والحب.. إن صحّ التعبير. ولكنْ خفّف من وقع الظلم والقمع، ظهور الأديان؛ الطبيعية القديمة، فالأخلاقية بعد ذلك (البوذية والكونفوشيوسية والزرادشتية مثلاً) ثم الأديان السماوية: اليهودية والمسيحية والإسلام.
ولولا الأديان – كالإسلام والمسيحية – لتحولت أنظمة التحضر.. إلى أنظمة «التوحش» الخالص. ولكن «التوحش» بقي وتفاقم.. مع ذلك، حتى صار الحب (النقي) وكأنه من المحرمات أحياناً كثيرة؛ وتحول الزواج إلى سلطة، وتحولت الحرب إلى فنّ وعلم في آن معاً. وتولدت «الدعارة» المنظّمة، كبديل للحب الزواجي-الأسري الحقيقي. كما تطورت فنون وعلوم القتل والقتال – من خلال استراتيجيات منظمة للحروب – خاصة في أواخر العصور الوسطى ثم طيلة العصر الحديث.
- • •
في خضمّ تطور القتل والقتال، و(تحضُّر القتل والقتال)، تم «اختراع الإبادة البشرية والجماعية» على نطاقات متفاوتة. هناك الإبادة الجزئية، والمتقطعة، والمحدودة.. زماناً ومكاناً؛ كتلك التي قام بها التتار أو المغول في أواسط العصور الوسطى (مثال سقوط بغداد على يد هولاكو عام 1258)،وهناك الإبادة الأكثر تنظيماً والأوسع نطاقاً.. من خلال الحروب؛ سواء في أوروبا (حرب المائة عام، حرب الثلاثين سنة)، أو في أوراسيا (الغزوات والحروب الإقليمية المحدودة في آسيا الوسطى)،أو تلك الموجهة ضد الشام وفلسطين (حرب الفرنجة أو «الصليبيين» نموذجاً). ومع تفاقم النظام الطبقي (الرأسمالي الأوروبي الغربي) بالذات، ثم الأمريكي بعد ذلك، فإن (إله الرأسمال المتوحش) – إن صح هذا التعبير – أصبح يمثل نظاماً كاملاً، داخلياً وإقليمياً وعلى المستوى العابر للأقاليم والحدود والبحار.
ثم إذا برأس المال العالمي.. ذاك – عابر الحدود والبحار – يتحول إلى (نظام) عالمي.. هو «نظام المستعمرات» في القرنين السادس عشر والسابع عشر Colonial System، وخاصة في سواحل أفريقيا وآسيا. وفي القارة الأمريكية بالذات، وقع أول نظام متكامل للإبادة البشرية الجماعية.. على أيدي الأوروبيين (البيض)،الذين استجلبوا الأفريقيين إلى «العالم الجديد»،وحوَّلوهم إلى عبيد.. بعد التضحية بأرواح الملايين منهم.. على متن السفن العابرة لـ«بحر الظلمات».
وتمت إبادة البشر والحجر.. على يد أولئك الأوروبيين، الذين استخدموا البارود.. في الاستيلاء على الممتلكات، والقضاء على أهل البلاد.. ذوي الحضارات الزاهرة؛ في القارتين الأمريكيتين شمالاً وجنوباً، وبخاصة شمالاً.. إبادة تامّة أو شبه تامّة، بعد أن أسموا من بقي حياً منهم (السكان الأصليين) تحت مسمّى «الهنود الحمر!».
بالترافق مع ذلك – ومن بعده – نشأ وتطور نظام استعماري كامل (الإمبريالية)؛وخاصة في القرنين التاسع عشر والعشرين. وكان رأس المال اليهودي.. بالذات؛ المولود في «جيتو» أوروبا الشرقية، سبّاقاً إلى التسابق ذي الطابع الاستعماري، لمحاولة حل المشكلة اليهودية (الجيتوية) في أوروبا.. عبر تصديرها إلى الخارج.
وتم ذلك فى إطار منظم تقريباً.. من خلال «المؤتمر اليهودي»؛على يد هرتزل.. في مؤتمره الأول عام 1897. ووُلدت الصهيونية، وإذا بالصهيونية.. أعلى مراحل الإمبريالية. وبعد أن كانت محاولة تصدير المشكلة اليهودية الأوروبية، متجهة في أوائل القرن العشرين إلى بلدان عدة؛ كالأرجنتين وأوغندا، إذا بها تتجه ثم تتركز ناحية سيناء (العريش)..وفلسطين بالذات.
ولأسباب عدة، تركز المسعى الصهيوني لتصدير المشكلة.. في البحث عن مأوى منظم (سُمّى بالموطن Homeland)، في فلسطين بالذات؛ بدءاً من وعد بلفور عام 1907، ثم العمل من باطن الانتداب البريطاني على فلسطين.. بعد الحرب العالمية الأولى، انتهاء بحرب الاستيلاء على كامل فلسطين تقريباً – على دفعات – من عام 1948 إلى 1967 وحتى الآن؛ عبر قضم تدريجي لفلسطين المحتلة. وظل «القضم» متواصلاً، حتى تفجرت نتائجه الكارثية.. يوم انفجار طوفان الأقصى في السابع من أكتوبر 2023. وبعد أحداث (الطوفان)،عادت الصهيونية أعلى مراحل الإمبريالية، فبلورت منظومة فكرية وتطبيقية للإبادة البشرية والجماعية Genocide.
- • •
هذا، وكانت قد وُجدت سلسلة (متحضرة!) من أعمال ونظم الإبادة – العامة أحياناً والمتقطعة أحياناً أخرى – في القرن العشرين. ونذكر هنا بعض ممارسات الاستعمار الياباني في آسيا والصين (خاصة منشوريا)..بين الحربين العالميتين، والإبادة الجماعية التي قام بها الاستعمار الإيطالي في ليبيا بعد 1911 (انظر كتاب «علي عبد اللطيف أحميده» حول الإبادة الجماعية في ليبيا)، ثم (هولوكوست) هتلر في ألمانيا وأوروبا الشرقية، ضد الأقلية اليهودية.
لعلنا نشير هنا، بالمناسبة.. إلى ضرورة تنقية التاريخ، بما فيه التاريخ الاستعماري! من الأوهام والمبالغات والأباطيل؛ وهذا ما قام به الفيلسوف (رجاء جارودي) (روجيه جارودي)..عن الأساطير المؤسسة للصهيونية؛ بما فيها المحرقة (أو الهولوكوست).
والآن، تقوم حرب الإبادة الجماعية الصهيونية الراهنة.. ضد الشعب الفلسطيني، وخاصة في غزة المناضلة، على قدميْن وساقيْن؛ فلابد إذن من تعريتها، وكشف جوهرها المعادي للإنسانية، والذي يقع تحت غطاء زائف من «التحضر» و«التمدن» الصهيوني! القادم من عالم الغرب الأمريكي-الأوروبي. إبادة بشرية و«هولوكوست فلسطيني»، ومحرقة حقيقية تتواصل، (على مدار الأربع وعشرين ساعة)..كما يقولون، تحت أضواء آلات التصوير الحديث، أمام أعين البشرية كافة، وفي الأركان الأربعة للمعمورة.
وإنها لإبادة جماعية، تقوم بمحاولة إلغاء الآخر(العربي-الفلسطيني) إلغاء تاماً، أو تحاول ذلك. ولكن هل يمكن ذلك؟ وهل يمكن إخفاء الجوهر الرجعي-العنصري والدموي.. للعمل الإبادي للاستعمار الصهيونيالاستيطاني لفلسطين (وإنْ تحضّر)؟!
لا ليس ذاك، فلن يمكن إخفاء وجه الحقيقة، ما دامت الشمس مشرقة، والقمر منيراً.
وإلا فلترتفعْ إذن أعلام الإشراق والإنارة، ليتجلّى الحق العربي-الفلسطيني الناصع، ويذهب الباطل الصهيوني إلى غياهب النسيان.
نقلاً عن «الشروق»