محمد أبو الغار..
هذه السيدة المصرية العظيمة، التي ناضلت وكافحت من أجل حقوق المرأة السياسية والاجتماعية والاقتصادية، ولكن– للأسف -لا يعرفها في مصر سوى أعداد محدودة من المهتمين بالحريات وبحقوق المرأة. يمر هذا العام 50 عاماً على رحيلها.
درية شفيق من مواليد طنطا عام 1908 من عائلة متوسطة، التحقت بمدرسة ابتدائية فرنسية تابعة لإرسالية كاثوليكية، ولم تجد فرصة لتكملة التعليم.. فبدأت المذاكرة وحدها في البيت، وخاضت امتحان البكالوريا الفرنسي ونجحت بتفوق، وطلبت من هدى شعراوي- رئيسة الاتحاد النسائي المصري–مساعدتها.. فاختيرت ضمن 11 فتاة مصرية سافرن إلى الخارج.
التحقت درية بالسوربون لدراسة الماجستير، وكانت رسالتها عن الفن عند قدماء المصريين، وعادت إلى مصر. وفي هذه الفترة تزوجت أحمد الصاوي محمد – القصاص اللامع ورئيس تحرير الأهرام – ولكن الزواج انتهى بالطلاق بهدوء بعد شهور.
وفيعام 1935، قرأت درية إعلاناً- في الإسكندرية – عن مسابقة ملكة جمال مصر، واشتركت في المسابقة، وكان ذلك حدثاً غريباً لأن الاشتراك في هذه المسابقات كان مقصوراً على الفتيات المتمصرات من الجاليات الأجنبية.
وسافرت درية إلى باريس للحصول على الدكتوراه، وكان موضوع الرسالة هو «المرأة في الإسلام»، وتزوجت هناك شفيق نور الدين رجائي.. الذي حصل على الدكتوراه في الاقتصاد، وأنجبا بنتين، عزيزة وجيهان. وفي القاهرة أسست اتحاد بنت النيل وأنشأت مجلة «بنت النيل» ومجلة «الكتكوت الصغير» للأطفال. وأنشأت مكتباً لتشغيل طالبات الجامعة ومساندة العاملات. وكان أحمد أمين – عميد كلية الآداب – قد رفض تعيينها في الجامعة، ويقال إنه لم يرغب في تعيين النساء.. خاصة الجميلات. ونظمت بنت النيل ندوات لرفع الوعي العام، وأنشطة ثقافية للمرأة. وفي عام 1945 طالبت بحق المرأة في التعليم. وبدأت تنادي بالحق في الانتخاب. وفي هذا العام أيضاً طالبت بأن يتم الطلاق أمام القاضي، وطالبت أيضاً بتحديد ومنع تعدد الزوجات.
وسافرت درية إلى لندن في عام 1951، لتطالب بحق المرأة في الانتخاب، ونشرت جريدة الديلي إكسبريس اللندنية حديثاً تقول فيه إنها سوف تُنشئ مجلة جديدة.. بعد عودتها إلى الوطن، وقالت إن هذا ليس وقت مجلات الموضة والعطور، وإنما وقت العمل لتحرير الوطن وتحرير المرأة.
وفي19 فبراير 1951 قادت 1500 سيدة واجتمعت بهن في قاعة محاضرات في الجامعة الأمريكية، وخدعت البوليس واتجهن إلى مجلس النواب، واقتحمن القاعة، وأعلنت أن هذا المجلس يمثل فقط الرجال. وتوقف اجتماع المجلس لمدة 4 ساعات.. حتى قال رئيس مجلس الشيوخ إنه سوف يدافع عن حقهن في التصويت والترشح في الانتخابات وتولي المناصب العامة. ولكنه لم يتعهد بالدفاع عن المطالب الأخرى الخاصة بتعديل الزواج والطلاق والأجور المتساوية بين الرجال والنساء.
وضعت هذه المظاهرة درية شفيق في مصاف أكثر السيدات تأثيراً في تاريخ المرأة في العالم العربي. وقادت مظاهرات حاصرت بنك باركليز البريطاني، ودعت إلى مقاطعة البضائع البريطانية.
وفي6 سبتمبر 1952 ذهبت إلى لندن للدفاع عن المرأة، وهاجمها بعض الرجال في مصر.. لأنها سيدة أنيقة، لا تصلح لقيادة حركة سياسية.
وبعد 1952، نشرت العديد من المقالات في الصحف والمجلات.. عن أهمية دور المرأة السياسي، وعن أهمية خروج الجمعيات النسائية من الحجرات المغلقة، إلى الشارع للتحدث عن المرأة.
وزارت لبنان في عام 1954، وقابلها رئيس الجمهورية كميل شمعون. كما زارت كل مدن فلسطين، وشرحت للسيدات أهمية حقوق المرأة. ونشر المخرج فطين عبدالوهاب سيناريو فيلم بطلته درية شفيق، وكتبت في هذه الفترة مقالات في الصحف المختلفة.. تطالب بإعطاء المرأة حقوقها.
وفي عام 1954 بدأت الحكومة في إعداد دستور جديد للبلاد، ولم تكن لجنة إعداد الدستور قد اقترحت شيئاً بخصوص المرأة، فقامت مع 10 نساء بالإضراب عن الطعام لمدة 10 أيام، ووعدها الرئيس محمد نجيب بأن الدستور الجديد سوف يكفل للمرأة حق التصويت والترشح لأول مرة في العصر الحديث. وجاء علي ماهر – رئيس الوزراء السابق – لإقناعهن بالعدول عن الإضراب، وحضرت حرم محمد صلاح الدين – وزير الخارجية الأسبق – التي شجعتهن على استمرار الإضراب. وتمت صياغة دستور جيد.. وضعته نخبة عظيمة، أعطى للمرأة حقوقها، وكان دستوراً ديمقراطياً متميزاً راعى الفصل التام بين السلطات التشريعية والقضائية والتنفيذية. ولكن مجلس قيادة الثورة وضع المشروع في الدرج، واعتبر أنه يعطي حقوقاً كثيرة للشعب. وفي مرحلة لاحقة صدر دستور شمولي.. يمنع التعددية والمنافسة، وإن أعطى للمرأة حق الترشح والانتخاب.
وفي نهاية 1954 قامت برحلة – استمرت عدة شهور – إلى أمريكا وأوروبا والهند وهونج كونج، كان لها وقع إيجابي عالمي، واستضافها نهرو رئيس الهند في بيته. وفي عام 1957 وصفت درية شفيق عبدالناصر بالديكتاتور، واعتصمت بالسفارة الهندية..مطالبة عبدالناصر بالرحيل، واتصل جواهر لال نهرو– رئيس وزراء الهند – بعبدالناصر (صديقه) طالباً منه عدم اعتقال درية شفيق، فأصدر عبدالناصر أمراً بتحديد إقامتها في شقتها.. ومنعها من الخروج. وصدرت أوامر بمنع ذكر اسمها في الصحف، ونُشر العديد من المقالات (في مجلتي الجيل الجديد وآخر ساعة) تؤيد تحديد إقامتها، وتطالب بمنع قيدها في سجل الصحفيين. وتم إغلاق «بنت النيل»، وإيقاف جميع الصحف التي كانت تصدرها.
وأثناء فترة العزلة – التي استمرت من عام 1957 حتى وفاة عبدالناصر عام 1970- كتبت أشعاراً باللغة الفرنسية، وترجمت أجزاء من القرآن الكريم، وكتبت مذكراتها وإن لم تُنشر. ولكن نُشر عنها كتاب بالانجليزية.. بقلم سنثيا نلسون ترجمته إلى العربية نهاد سالم بعنوان «امرأة مختلفة».
رحلت درية شفيق فى 20 سبتمبر عام 1975.. بأن سقطت من البلكونة فى بيتها في الدور السادس. يعتقد الكثيرون أنه كان انتحاراً. وبدأت الصحف بعد وفاتها في الدفاع عنها، وذلك في رسالة إلى بريد القراء في الأهرام وعمود على أمين (فكرة) ومقال لمصطفى أمين.
وفي22 سبتمبر 1975 نشرت فاطمة عبدالخالق عموداً في الأهرام، قالت عنها إنها كانت الرجل الوحيد في مصر، لأن الجميع سكنهم الرعب وأصيبوا بالخرس، وجاءت درية شفيق لتقول إننا في طريقنا للديكتاتورية، وتطالب بالحرية، ودفعت الثمن غالياً. وتقول من حق هذه المرأة أن نذكرها.. إذا تحررت صحافتنا، وعادت ألسنتنا إلى أفواهنا، ونزعت الأقفال عن شفاهنا.
وفي23 أغسطس عام 2018 نشرت «نيويورك تايمز» مقالة عن درية شفيق بعنوان «المرأة التي لا يمكن تجاهلها». درية شفيق التي قادت حركة تحرير المرأة، وإضرابها عن الطعام، وتظاهراتها جعلتها من أهم السيدات في تاريخ العرب.
نظمت الدكتورة هدى الصدة الأسبوع الماضي حلقة نقاشية عن درية شفيق – بحضور ابنتها وحفيدتها – في جامعة القاهرة، وأسست مؤسسة المرأة والذاكرة أرشيفاً عنها. وهكذا يُكتب تاريخ جديد لسيدة مهمة.. شاركت في تحرير المرأة المصرية، وكانت فعلاً امرأة مختلفة.
قوم يا مصري.. مصر دايماً بتناديك
نقلاً عن «المصري اليوم»