سمير مرقص
التأمت نخبة المنتدى الاقتصادي العالمي – أو ما يُعرف بمنتدى دافوس – في العشرين وحتى الرابع والعشرين من يناير الحالي، والنخبة المعنية في هذا المقام.. هي العناصر التي تدير الرأسمالية العالمية؛ من اقتصاديين وسياسيين وحكوميين وعسكريين واستخباراتيين وباحثين ورجال أعمال وممثلي البنوك والمؤسسات العالمية وقادة المجتمع المدني، وذلك تحت عنوان: «التعاون من أجل العصر الذكي Collaboration For Intelligent Age».
جاء لقاء هذا العام، بعد أكثر من عقد ونصف العقد من الأزمة الاقتصادية العالمية.. المستحكمة والممتدة؛ تلك الأزمة التي انطلقت في سنة 2008، ولم تزل تداعياتها ضاغطة على مواطني الكوكب (الـ 8 مليارات) إلى هذه اللحظة. وهي الأزمة التي تؤكدها عناوين النسخ الأخيرة للمنتدى.. الذي يُعقد في منتجع دافوس أعلى جبال الألب بسويسرا.
ونذكّر القارئ الكريم ببعض من هذه العناوين وهي:
أولاً: اللامساواة، والصراع، والإقصاء.
ثانياً: الثورة الصناعية الرابعة، أو العولمة في طورها الرابع، وكيفية تشكيل بنيتها العالمية.
وثالثاً: نحو خلق مستقبل مشترك في عالم ممزق.
ورابعاً: تاريخ في نقطة تحول.. السياسات الحكومية واستراتيجيات الأعمال.
وخامساً: رأسمالية أصحاب المصلحة: اقتصاد عالمي يعمل من أجل التقدم، والناس، والكوكب.
وسادساً: التعاون في عالم «مُشظي»… إلخ.
ومن خلال متابعتنا للنقاش – الذي تناول عشرات الموضوعات، تحت العناوين التي ذكرناها – خلصنا في مقالاتنا حول دافوس 2023، إلى أن هناك توافقاً تاماً بين أعضاء نخبة دافوس/الرأسمالية.. على أن العنوان الكبير – ليس فقط للعقد والنصف الأخير، بل لعقود الرأسمالية في طبعتها النيوليبرالية.. منذ عام 1980 – هو: الإخفاق التام؛ حسب أدبيات دافوس؛ إذ إن هناك اعترافاً جلياً.. بمدى تردِّي الأحوال في الدول الغنية والصاعدة والفقيرة.. على السواء. وهو ما عكسته الاضطرابات المجتمعية؛ التي انطلقت أولاً في دول المركز الرأسمالي؛ وتحديداً من جوادلوب الفرنسية في 2009، وإنجلترا 2011، وامتدت إلى أنحاء كثيرة من العالم دون استثناء.. فيما عُرف بالحركات المواطنية القاعدية المقاومة للعولمة والنيوليبرالية، وما تسببتا فيه من إضرار بحياتي البشر والبيئة من جهة، وتفاقم للفقر واللامساواة من جهة أخرى.
في ضوء ما سبق، حدّد منتدى دافوس أهداف لقاء هذا العام.. في ثلاثة أهداف، هي:
أولاً: الاستجابة للصدمات shocks الجيو-سياسية التي اجتاحت العالم،
وثانياً: تحفيز النمو لتحسين الأحوال المعيشية للبشرية،
وثالثاً: تنظيم عملية الانتقال العادل والشامل لاستخدام الطاقة.
في هذا الإطار، وضعت إدارة المنتدى.. خمسة محاور أساسية للنقاش، ذات صلة ببعضها البعض، تشمل:
المحور الأول: إعادة بناء الثقة، وكيف يمكن لأصحاب المصلحة.. أن يجدوا سبلاً للتعاون الدولي وداخل المجتمعات.
المحور الثاني: طرح أفكار مبتكرة، تتعلق بالنمو.. من خلال البحث عن مصادر جديدة له في هذه المرحلة من مراحل الاقتصاد العالمي.
المحور الثالث: كيف يمكن الاستثمار في الناس – رأس المال البشري – من خلال القطاعين العام والخاص، وديمومة تنميته في وظائف جيدة.. تسهم في تنمية (تحقق) مجتمعا حديثا ومرنا.
المحور الرابع: حماية الكوكب وإنقاذه.. من خلال تبني الحقول التكنولوجية الجديدة، ومدِّها على أوسع نطاق.. من خلال شراكات ابتكارية وتمويلات متنامية.
المحور الخامس: التحول إلى صناعات تلائم العصر الذكي.
فصّل «الدافوسيون» المقصد من وراء المحاور الخمسة السابقة.. من خلال بعض الأفكار الاسترشادية والأرقام الدالة. ويشير التقرير الإطاري لمنتدى دافوس (في دورته الـ 55).. إلى مجموعة من الحقائق تتعلق بالمحاور الخمسة السابقة وذلك كما يلي:
بالنسبة للمحور الأول: إعادة بناء الثقة Rebuilding Trust؛ ينطلق التقرير من أن هناك وضعية سائدة في العالم.. تتسم بانقسامات اجتماعية عميقة، وصراعات عالمية من أجل القبول بالتعددية القطبية، وتنافسية تدفع نحو إقرار الحمائية التجارية، ما قد يؤثر سلباً على التعاون الدولي في مجالي التجارة والاستثمار. ويتناقض ما سبق.. مع تنامي دور الاقتصاد الرقمي التجاري والاستثماري.. أربع مرات خلال العقدين السابقين. ومن ثم، على أصحاب المصلحة إيجاد حلول مبتكرة في هذا المجال، تنطلق من تعاون ثلاثي؛ بين أصحاب الأعمال، والحكومات، والمجتمع المدني.
بالنسبة للمحور الثاني: تصور جديد للنمو Reimagining Growth؛ انطلاقاً من أن الاقتصاد الرقمي يشكل الآن.. ما يقرب من 16% من الناتج المحلي الإجمالي العالمي، ومن ثم – وبمزيد من الجهد والابتكار – يمكن لهذه النسبة أن تتضاعف مستقبلاً، شريطة العمل من قبَل صانعي القرار.. على إيجاد مصادر جديدة للنمو في ضوء الاقتصاد الرقمي.
بالنسبة للمحور الثالث: الاستثمار في الناس Investing in People؛ نظراً لأن التقدم التكنولوجي.. سيكون له تأثير على كل شيء، بداية من التوظيف والقدرات البشرية/المهارات وتوزيع الثروة.. إلى الرعاية الصحية والتعليم والخدمات العامة. بيد أنه من الأهمية بمكان، إعادة تأهيل الأفراد وتطوير مهاراتهم، لمواكبة متطلبات ما أطلقوا عليه «اقتصاد المستقبل»؛ أخذاً في الاعتبار.. أن ما يقارب من 50% من العمالة على مستوى العالم، ستتأثر بالاقتصاد الرقمي. وعليه لا بد من خلق فرص عمل جيدة، تتناسب مع اقتصاد الغد.. الرقمي الذكي.
بالنسبة للمحور الرابع: حماية الكوكب Safe guarding the Planet؛ يفتح النقاش حول الاستثمار في تقنيات نظيفة.. تتعلق بالمناخ والطاقة، وتعميمها كوكبياً، إذا ما أردنا بلوغ «صفر انبعاثات حرارية» بحلول سنة 2050.
بالنسبة للمحور الخامس: صناعات العصر الذكي Industries in the Intelligent Age؛ لا بد من إعادة توجيه استراتيجيات التصنيع الراهنة.. لتخدّم على التحولات الكبرى الجيو-اقتصادية والتكنولوجية، التي بدأت تلحق بالفعل بالصناعات الراهنة.. لصالح التحول التام إلى صناعات العصر الذكي.
وبعد، تمثل المحاور السابقة – بما تضم من موضوعات متنوعة – المساحات النقاشية.. التي ستشغل بال نخبة دافوس خلال الأيام القادمة، وكلها – كما عرضنا – تدور حول واقع ومستقبل العلاقة بين النظام الاقتصادي العالمي الراهن – بكل ما يحمل من أعباء مزمنة – وبين الطفرة التكنولوجية الرقمية.
وبلغة أخرى، هل ينقذ العصر الذكي الرأسمالية العالمية بتجليها النيوليبرالي من أزمتها؟
… هذا ما حاولت نخبة دافوس الإجابة عليه.
نقلاً عن «الأهرام»