د. نيفين مسعد
مثّل تكليف القاضي الدولي نوّاف سلام بتشكيل الحكومة اللبنانية.. مفاجأة من العيار الثقيل، حتى بالنسبة للمتابعين – عن كثب – تطورات المشهد السياسي اللبناني. جاء «سلام» من عائلة سياسية عريقة؛ فعمّه صائب سلام.. كان رئيساً للحكومة أربع مرات بين عامي 1952 و1973، وكذلك تولّى ابن عمه تمام سلام.. رئاسة الحكومة لمدة عامين من 2014 وحتى 2016. وهو نفسه ليس بعيداً عن عالم السياسة، فلقد تقاطع طريقه مع طريق تيار 14 آذار (مارس) – الذي تشكّل بعد الانسحاب السوري من لبنان في عام 2005 – وعندما اندلعت انتفاضة 17 تشرين الأول (أكتوبر) عام ،2019 تحمّس لها سلام بقوة. وفي أعقابها تم طُرح اسمه – أكثر من مرة – كرئيس للحكومة، آخرها في مشاورات عام 2022. وهو – فوق ذلك – كان مندوب لبنان في الأمم المتحدة لمدة عَقد كامل. والحال كذلك، ما هو إذن وجه المفاجأة في تكليفه هذه المرة أيضاً بالتشكيل.. إلى حد وصف ما حدث في بعض الكتابات بالانقلاب، وفي كتابات أخرى بالزلزال؟
واقع الأمر، أنه لا يمكن فصل مفاجأة انتخاب «سلام»، عن مفاجأة انتخاب چوزيف عون.. بسلاسة شديدة، وبأغلبية مريحة.. تفادت تعديل الدستور، الذي يحظر انتخاب قائد الجيش رئيساً للجمهورية. كما تنبع المفاجأة.. من الملابسات التي أحاطت بتكليف سلام، فلقد قيل إنه تم الاتفاق مع الثنائي الشيعي – «حركة أمل» و«حزب الله».. على التصويت لصالح انتخاب چوزيف عون رئيساً للجمهورية، مقابل تكليف نجيب ميقاتي بتشكيل الحكومة. وفي مقابل هذه السردية – التي تتكرر على ألسنة مسئولي الثنائي الشيعي – هناك إنكار لحدوث مثل هذا الاتفاق أصلًا.. من جانب القوات اللبنانية، والتيار الوطني الحر.
وبطبيعة الحال، سيكون من الصعب الوقوف على حقيقة ما حدث بالضبط.. في هذه المرحلة الزمنية على الأقل، ولنتذكر أن الاتفاق – الذي تم توقيعه بين القوات اللبنانية، والتيار الوطني الحر عام 2016.. في مقر القوات بمعراب، ووافق بموجبه سمير جعجع (زعيم القوات) على تأييد ترشيح ميشيل عون لرئاسة الجمهورية، وتقاسُم القوات والتيار مناصفةً المقاعد الوزارية. هذا الاتفاق لم تُعرَف تفاصيل بنوده، وظلت سريّة حتى عام 2018، أي بعد عامين من توقيعه، رغم أنه كان اتفاقاً مكتوباً لا شفوياً.
ومن أسباب المفاجأة أيضاً، أنه حتى ظهر اليوم السابق على تكليف نوّاف سلام بتشكيل الحكومة، لم يكن اسمه بين الأسماء المتداولة لتشكيل الحكومة، فالاسم الرائج كان هو اسم نجيب ميقاتي، وكان هناك اسمان آخران مطروحان؛ وهما للنائبين إبراهيم منيمنة وفؤاد مخزومي.. والأخير كان مرشح حزب القوات اللبنانية. أما وقد تمسكّت قوى التغيير بتكليف نوّاف سلام، فلقد أدى ذلك إلى ذهاب القوات اللبنانية لدعم ترشيحه.. حتى لا تتشتت الأصوات، ويصّب ذلك آخر المطاف في مصلحة نجيب ميقاتي.
وأما لماذا التقت القوات مع التيار في مواجهة ميقاتي؟ فالأسباب مختلفة، لكن ربما أهمها الرغبة في القطع مع المرحلة السابقة، التي تميزت بهيمنة الثنائي الشيعي على العملية السياسية، واختيار أحد العناصر المعارضة لهذه الهيمنة، علاوة على السمعة الدولية الرفيعة لسلام. وذلك على الرغم من أن اتفاق الهدنة بين لبنان وإسرائيل.. تم في ظل حكومة نجيب ميقاتي، وبدور أساسي لعبه نبيه بري – رئيس مجلس النواب – بعد أن فوّضه حزب الله.
إذا انتقلنا من عنصر المفاجأة.. التى فجّرها تكليف نوّاف سلام بتشكيل الحكومة، إلى بعض الملاحظات التي ترتبط بهذا التكليف، أمكن لنا أن نسجّل ثلاث ملاحظات أساسية.
الملاحظة الأولى: هي أن هناك تبدلاً واضحاً في التحالفات السياسية.. التي حكمت العَقد الماضي؛ فالتيار الوطني الحر.. انتقل من مربع التحالف مع حزب الله، إلى الوقوف ضده في عملية التكليف. والحزب الاشتراكي التقدمي – الذي يقوده تيمور جنبلاط – ابتعد عن حليفه القديم، (أي حركة أمل، بزعامة نبيه بري)، ولم يصوّت لميقاتي، وتوافقت مواقف القوى المسيحية – أي القوات والتيار والكتائب – لأول مرة منذ فترة طويلة، وإن كان هذا التوافق يدخل في عداد التفاهمات.. لا التحالفات، ومن باب أن الضرورات تبيح المحظورات، على الأقل في علاقة القوات بالتيار.
الملاحظة الثانية: تتعلّق بقراءة السلوك التصويتي للثنائي الشيعي.. في مجلس النواب، وذلك أن الثنائي – الذي يحظى بـ27 مقعداً داخل المجلس – صوّت نوابه بورقة بيضاء، ولم يعطوا أصواتهم لنجيب ميقاتي الذي حصل على 9 أصوات فقط، مقابل 85 صوتاً فاز بها سلام.
والسؤال الذي يتبادر إلى الذهن هنا، هو: لماذا لم يصوّت الثنائي الشيعي لصالح مرشحه.. لتشكيل الحكومة؟
تحليلي الشخصي، أن الثنائي كان أمام خيارين؛ الخيار الأول: هو إنقاذ ماء وجه ميقاتي، برفع عدد الأصوات التي حصل عليها من النواب. والخيار الثاني: هو تجنب الحرج السياسي، الذي كان سيتعرّض له الثنائي الشيعي.. بتصويته لمرشح صار واضحاً أنه لن ينجح؛ لأن هناك حشداً نيابياً وراء مرشح المفاجأة أي نوّاف سلام. فالثنائي الشيعي.. اعتاد فرض خياراته السياسية على لبنان – لمدة تقارب العقدين من الزمان – وعدم نجاحه هذه المرة، سيساعد في الترويج لما يقوله خصوم حزب بالله بالذات.. عن أنه انتهى عسكرياً وسياسياً أيضاً.
أما إبطال الثنائي الشيعي صوته، ففيه رسالة احتجاج واضحة.. ضد كل ما يحدث على الساحة اللبنانية. وبالفعل – وعلى الفور – خرج النائب محمد رعد.. رئيس كتلة الوفاء للمقاومة بمجلس النواب، ليقول: «إن البعض يعمل على التفكيك والتقسيم والشرذمة والإلغاء والإقصاء.. تعنتاً وكيدية وتربصاً». ثم أضاف: «من حقهم أن يعيشوا تجربتهم، ومن حقنا أن نطالب بحكومة ميثاقية؛ لأن أي سلطة تناقض العيش المشترك.. لا شرعية لها على الإطلاق».
الملاحظة الثالثة: تنبع من كلام رعد، وتتعلّق بمعنى كل من «الميثاقية» و«العيش المشترك». أو بمعنى الديمقراطية في العموم.. في مجتمع شديد التنوع السكاني – كالمجتمع اللبناني على وجه الخصوص – وإلى أي حد يمكن اعتبار تكليف نوّاف سلام.. خروجاً على الديمقراطية بمعناها العام، وأيضًا بمعناها الخاص؟
هذا سؤال كبير يتعلّق بمستقبل لبنان، يستحق مناقشة تفصيلية.. في مقال آخر.
نقلاً عن «الأهرام»