Times of Egypt

حكايات القِربة المظلومة 

Mohamed Bosila
نيفين مسعد

نيفين مسعد 

سمعنا عن القِربة المقطوعة.. التي ننفخ فيها، فلا يصدر عنها صوت؛ لأن القَطع في القِربة يمنعها من الامتلاء بالهواء. ويُستخدم مثال النفخ في القِربة المقطوعة.. في الحالة التي لا فائدة منها، ولا أمل فيها. سمعنا أيضاً عن القِربة المخرومة، التي نلقي فيها بقِطع النقود.. فتتسرّب من الخرم، ولا يتبقى شيء من القطع المعدنية. ويُستخدم مثال القِربة المخرومة.. في حالة الإسراف والتبذير، التي تجعل صاحبها على البلاطة. أما القِربة المظلومة فما هي حكايتها بالضبط؟ 

 
• • • 
 

القِربة المظلومة.. هي مدفأة الفقراء في الشتاء، ولو أنها لم تعد تناسب الفقراء بالضبط.. بعد ارتفاع سعرها. وبالتالي، فلعل من الأفضل القول إنها تناسب الطبقة الوسطى.. في وضعها الحالي. والقِربة المظلومة.. هي البديل الآمن للتكييف؛ إذ إن الانتقال من مكان ساخن.. إلى مكان بارد، يُعرّض صاحبه للإصابة بالأنفلونزا. أما هي، فإنها طالما تم إغلاقها بإحكام، لا تتسبب في أي مشاكل.  

لاحظ أيضاً.. عزيزي القارئ، أن القِربة المظلومة.. طيّعة وسلسة، يمكنك الانتقال بها من حجرة لأخرى داخل المنزل. وفي المقابل فإن نقل المدفأة – من مكان لآخر – فيه صعوبة؛ خصوصاً إن كانت كبيرة الحجم. وأخيراً يمكن لنا أن نضع القِربة.. حول مكان تتصلّب أوردته وشرايينه، فتنشّط الدورة الدموية بمنتهى المهارة. لكن قل لي حضرتك.. كيف يمكنك أن تضع جهاز التكييف حول رقبتك، أو فوق ركبتك.. مثلاً؟  

أما سبب اعتبار القِربة مظلومة، فهو أنها لم تأخذ حظها من الاحترام والتقدير.. رغم كل هذه المزايا التي تتحلّى بها. ورغم الدور العظيم الذي تلعبه في حياة الأشخاص.. العارفين بفضلها. تذكّرني مظلومية القِربة، بمظلومية لعبة الإسكواش.. التي يفوق عمرها مائة عام. ومع ذلك، لن تدخل ضمن الألعاب الأوليمبية.. إلا في دورة لوس أنچلوس عام 2028. أما على المستوى الشخصي، فإنني.. كما لا أتصوّر حياتي بدون راديو، لا أتصورها أيضاً بدون قِربة؛ فإذا كان الراديو يدفئ الروح، فإن القِربة تدفئ الجسد. وعندما يجتمع الراديو مع القِربة، أكون ملكتُ الدنيا وما فيها. لهذا.. فأنا أحب القِربة، وأحب مَن يحب القِربة، وأحتفظ لها – في ذاكرتي – بحكايات كثيرة.. بعضها طريف، وبعضها مثير، وربما جديد أيضاً. 

 
• • • 
 

الحكاية الأولى: القِربة تراث عائلي 
تهّل علينا نهايات شهر ديسمبر، وبدايات شهر يناير.. فتبدأ القِربة في الاستعداد، وتجهّز نفسها لتنزل الخدمة.. بمنتهى الإخلاص. أملأ القِربة بالماء المغلي على درجة بولولوم بولولوم.. كما فعل أمين الهنيدي – أو الأستاذ عبد المتجلّي سليط.. في مسرحية «لوكاندة الفردوس» – فلا يعود يهمني برد ولا يحزنون. ومع ذلك، فإن زجاجة الهنيدي – الممتلئة بالماء – لم تكن تغلي، بل أوهمه بذلك عبد المنعم مدبولي – أو الأستاذ عطية الشلشلموني – حتى يتخلّص منه، ويخلو له الجو مع صديقته.  

أما قِربتي أنا، فتكون مياهها بولولوم بولولوم فعلاً، ويساعدها على الاحتفاظ بالبولولوم.. أنها في ثوبها الحديث، أصبحَت تسكن داخل جراب صوفي سميك.  

يقولون إن المشاعر.. لا يمكن أن تكون من طرف واحد، لذلك.. أنا شبه متأكدة، من أن القِربة – وهي تشعر بامتناني الشديد لها – تبادلني نفس الشعور. فكما تتفانى هي.. في تدفئتي.. بمنتهى الإخلاص، فأنا أروّج لها بدوري.. بين الأهل والأصدقاء، وأذكرها دائماً بكل خير. وآخر شخص.. نجحتُ في التأثير عليه، وإقناعه بأهمية القِربة.. ابنتي التي تعيش في كندا.  

صحيح أن كندا، لا تنفع في مواجهة صقيعها ..لا قِربة واحدة ولا حتى مائة قِربة، لكن كما يقولون.. إن النواية تسند الزير. وإذا كنت قد تأخرتُ في إحداث الأثر المطلوب في نفس ابنتي، فلم تحّب القِربة إلا على كبَر، فإنني – بفضل الله تعالى – نجحتُ في غرس حب القِربة في حفيدتّي.. منذ الصغر؛ تماماً كما تلقيتُ عن أمي هذا الحب، فنحن عائلة نشأَت على حب القِربة. 

 
• • • 
 

الحكاية الثانية: قِربة الحبوب 
على الرغم من هذا التاريخ العريق لعائلتي.. مع القِربة، وتوارث حبها من جيل إلى جيل، إلا إنني اكتشفتُ مؤخراً.. أنني لا أعرف بعض المعلومات المهمة عنها، وأنها مازالت قادرة على إدهاشي.. وأنا في هذا العُمر. قالت لي صديقة عزيزة.. إنها تصنع قِربتها – بنفسها – من قماش القطيفة، وتملأها بالحبوب.. بدلاً من الماء. وعندما تحتاج إليها، تضعها في جهاز المايكرويف.. لدقائق، فيخرج منها الدفء بولولوم بولولوم. أشارت عليّ صديقتي أيضاً.. أن أجرّب هذه الطريقة الرائعة كما تصفها، ونصحتني أن أختار الحبوب الصغيرة بالذات، لأن الحبوب الكبيرة داخل القِربة عادةً ما تكون مزعجة.  

أما أطرف ما قالته صديقتي.. عن القِربة، فهو أن ابنها يغتاظ جدًا.. عندما يبحث عن كيس العدس الأصفر، الذي اشتراه ليصنع منه شوربة مغذية، فتعتذر له.. بأن العدس صار داخل القِربة.. واللي كان كان. لم أجرّب هذه الطريقة من قبل، وأظن أنني لن أجرّبها؛ فكلما قللنا من استخدام المايكرويف.. يكون أفضل. لكن لدّي فضول.. لمعرفة ما إذا كانت الحبوب الساخنة تدفئ أم لا، ثم أتراجع في اللحظة الأخيرة. فأنا أثق في كلام صديقتي. 

 
• • • 
 

الحكاية الثالثة: قِربة بألفي جنيه 
كنتُ قد ذكرتُ.. في بداية المقال، أن القِربة لم تعد في متناول الفقراء.. بعد أن ارتفع سعرها، وأود – في ختام المقال – أن أؤكّد هذه المعلومة؛ فقبل بضعة أيام، بدأَت قِربتي الحبيبة.. في تسريب المياه، وكأنها – بعد عِشرة طيبة، لا تقّل عن خمس سنوات – قرَرَت أخيراً أن تتقاعد. احترمتُ قرارها، واتصلْت بالصيدلية.. لأطلب قِربة جديدة، ونقطاً للأنف، ودواءً بسيطاً للحساسية؛ فالأنفلونزا لم تترك بيتاً في مصر.. إلا زارته. والحمد لله، أن زيارتها لبيتنا كانت خفيفة. وصل عامل الدليڤري، وسألته عن المطلوب.. فقال – بثبات انفعالي مثير – «ألفين جنيه يا مدام»..  

… ننننننعم؟ ألفين جنيه لماذا؟  

قلبي الصغير لا يحتمل. أعرف نار الأسعار طبعاً، وأكتوي بها.. حالي حال الجميع، لكن ليس إلى هذا الحد أبداً. قبل أن أفتح فمي، أدرك العامل أنه أخطأ وقال: آسف آسف الفاتورة خمسمائة وأربعين جنيهاً.  

لم أنشغل بتحليل العلاقة.. بين ألفين جنيه، وخمسمائة وأربعين جنيهاً. ولا من أين يمكن خلطهما بالضبط. فهذا رقم، وذاك رقم.. مختلف تماماً. كل ما كنت أفكر فيه آنذاك، هو في طرح قيمة القِربة من إجمالي قيمة الفاتورة، لأكتفي بشرائها وحدها؛ فالحساسية مقدور عليها، وكذلك احتقان الأنف. أما البولولوم بولولوم فلا بديل له.  

مش عايزة غير القِربة.. قلتُ في حسم.  

فرد العامل: يبقى الحساب أربعمائة وخمسين جنيهاً.  

… فعلاً هذا صار سعر القِربة: أربعمائة وخمسون جنيهاً؟ مضت ثوانٍ اختبرَت فيها القِربة المظلومة. معزّتها في قلبي، وكما هو متوقّع.. نجحَت في الاختبار.  

احتضنتُ البولولوم بولولوم – بعد تسخين الماء – حضن العاشق الولهان، وترحمّت بإخلاص.. على قِربتي القديمة، ونِمت. 

نقلاً عن «الشروق» 

شارك هذه المقالة
اترك تعليق

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

For security, use of Google's reCAPTCHA service is required which is subject to the Google Privacy Policy and Terms of Use.