محمد أبو الغار
في عصر تُحاصَر فيه الحريات في كل مكان، ولا يُسمح بتبادل الأفكار ومناقشتها.. في كثير من أنحاء العالم، ووسائل الإعلام الضخمة أصبحت ملك دول، أو مملوكة لعدد محدود من الأفراد؛ مما أعطى لهم الفرصة لحجب آراء وأفكار لا تروق لهم. تبرز أهمية هذا الكتاب للرائد العظيم سلامة موسى، ونسختي هي الطبعة الخامسة الصادرة عام 1978 عن دار المستقبل وثمنها ٨٠ قرشاً.
يقول سلامة موسى: إن الرغبة في الدفاع عن فكرة إنسانية أو علمية.. تؤدي إلى التطور، قد تكون أقوى من شهوة الطعام أو اقتناء المال، ويحاول صاحب الفكرة أن يفتح ثغرة لينشر فكرته، وهو ما حدث عند استشهاد الأنبياء والعلماء والفلاسفة.. في سبيل نشر أفكارهم الجديدة. فالفكرة طاقة تظل منحبسة، تعذب الذهن حتى تخرج إلى العالم، وتعوق الأفكار الجديدة الخلاقة عن الظهور عدة أمور؛ أولها أن الإنسان حين يتعود على نمط معين لا يحب أن يغيره. والثاني هو أن أي تغيير بسبب فكرة جديدة، سوف يؤدي إلى خسارة البعض لميزة كانوا يستفيدون منها وأهمهم الحكام الظلمة، والأمر الثالث هو الجهل الذي يؤدي إلى الخوف والتعصب ضد الأفكار الجديدة.
ويقول إن الدين لا يمكن أن يضطهد العلم، وإنما الاضطهاد يرجع إلى الكهنة ورجال الدين، وهو ما لا يمكن أن يحدث.. ما لم تكن السلطة في أيديهم، أما إذا صارت الدولة والدين جسماً واحداً، أمكن لرجال الدين أن يضطهدوا ما يشاؤون، وأن يقيدوا الفكر كما يريدون. ويضرب مثلاً برجال الكنيسة في العصور الوسطى. ويقول إن رجال الحكم.. كثيراً ما استخدموا الدين سلاحاً يرهب الناس؛ لأن الدين يزيد سلطان رجل الحكم.. فلا يقصره على هذا العالم، بل يمتد إلى العالم الآخر. والحاكم – حتى ولو كان نفسه لا يؤمن بالدين – فإنه يستخدمه لتنشيط سلطانه وحكم الجماهير.
وينتقل إلى محاكمة سقراط.. الذي دافع عن نفسه قائلاً: ليس على أرض إنسان، له الحق أن يُملي على الآخر.. ما يجب أن يؤمن به، أو يحرمه من حق التفكير، ما دام على وفاق مع ضميره. فيجب أن يُترك الناس أحراراً.. في مناقشة كل شيء بدون تدخل الحكومة.
ينتقل سلامة موسى إلى حرية الفكر ومشاكلها، وحواراتها المهمة في عصر الرومان، وفي العصر المسيحي ثم في الإسلام. ويناقش تاريخ باباوات روما، ونفوذهم وتأثيرهم على حرية الفكر. وينتقل إلى الإسلام.. فيناقش أفكار الغزالي ومحمد عبده ثم ابن عربي والصوفية في الإسلام. وينتقل إلى ابن حنبل وقضية خلق القرآن.
وهناك فصل عن اضطهاد الفلاسفة؛ ففي الأندلس.. كان من يقرأ ويتحدث في الفلسفة، تطلق عليه العامة اسم زنديق. وكثيراً ما كانوا يرجمونه بالحجارة أو يحرقونه، أو يقتله السلطان.. تقرباً للعامة. وكان حرق الكتب أمراً عادياً، ويقول سلامة موسى عن ذلك.. إنه: كان من الأمور الفاشية المبتذلة، ويقال إن ابن حزم كان عنده 400 مجلد.. تم إحراقها جميعاً، ونجا كتاب واحد.
وأشهر المفكرين الذين اضطُهدوا ابن رشد في الأندلس، والسهروردي في حلب بسوريا. كان ابن رشد فيلسوفاً مجدداً.. قام بتجديد فلسفة أرسطو، وألف كتاب «تهافت التهافت» رداً على كتاب الغزالي «تهافت الفلاسفة»، ليرفع من شأن الفلسفة، بعد أن قضى عليها الغزالي في الشرق.. قضاء لم تبعث منه للآن. فأمر الحاكم المنصور بأن تحدد إقامة ابن رشد في قرية صغيرة بجوار قرطبة، والسبب المعلن هو الانشغال بالحكمة وعلوم الأوائل. وأذاع المنصور – والي الأندلس – منشورات يحذر الناس من العمل بالفلسفة. أما السهروردي فقد قُتل عن عمر 36 عاماً في حلب، بعد أن شكاه فقهاء حلب إلى صلاح الدين، واتهموه بالفلسفة فأمر بقتله.
ثم ينتقل إلى الجمهور وكبت حرية الفكر والاضطهاد؛ فيتحدث عن ضغط الجمهور لاضطهاد السود في أمريكا، واليهود في أوروبا (نشر الكتاب عام 1935 وقت عنفوان النازية) أو الأتراك للأرمن. وقال إن تهور الجماهير وتعصبها.. يتأثر باعتبارات عديدة، وأن التعصب يرجع إلى القابض على السلطة الدينية وفهمه، فالدين المسيحي – المتسامح الآن – هو نفسه الذي كان يؤمن بمحاكم التفتيش في القرون الوسطى، والإسلام الذي كان متسامحاً مع المعري.. هو الذي استخدم لقتل السهروردي.
وفي أوروبا قُتل الراهب جون هيس عام 1415، لأنه قدم شرحاً في الدين.. اعتُبر هرطقة، فحاكمته الكنيسة، وأعدم.. بدون الالتفات إلى دفاعه.
وكان اختراع المطبعة لجوتنبرج ثورة في العالم في القرن الخامس عشر، وبعد سنوات انتشرت طباعة الكتب وانهمك الناس في القراءة؛ فشعرت الكنيسة بالخطر، فأصدرت قوائم بالكتب الممنوعة، وأدت هذه القوائم إلى عكس ما ترغب فيه الكنيسة، فكان الناس يبحثون عن الكتب الممنوعة.. لشرائها، وأصبح الإقبال عليها عظيماً. وبدأت مرحلة حرق الكتب وإغلاق المطابع وحبس الطابعين، وهو ما تمارسه بعض الدول الآن.
ثم ينتقل إلى العصر الحالي (1935) وممارسة الحكومات للرقابة على الكتب.. وفشلها في ذلك. الآن في عصر الإنترنت محاولات الرقابة على المطبوعات والأفلام مستحيلة.
ويتحدث عن ظهور البروتستنتية في شمال أوروبا.. احتجاجاً على تعنت الكنيسة الكاثوليكية، وبيع صكوك الغفران، وانتشار محاكم التفتيش. وساعد على انتشارها.. رغبة أمراء وحكام شمال أوروبا في الخروج من تحت مظلة بابا روما.
ثم حكاية جاليليو الإيطالي.. الذي وُلد عام 1564 ونبغ في دراسة الرياضيات والميكانيكا واخترع التلسكوب والميكروسكوب والترمومتر. وعن طريق التلسكوب.. أوضح أن الأرض أحد الكواكب، وليست مركز الكون. وأبلغت الكنيسة جاليليو أنه سوف يقدم لمحكمة التفتيش.. لأنه أنكر أن الأرض مركز الكون، وحُكم عليه بالسجن ثلاث سنوات.. بعد أن استُتيب، واستأذن البابا في نشر كتابه عن حركة المد والجزر، وارتباطها بدورات الأرض. فسمح له البابا.. على أن يكتب في الخاتمة أن كل ما أثبته عن حركة المد والجزر، ليس بالتأكيد صحيحاً.. لأن كل شيء بإرادة الله، وبهذا تراجع عن إثبات نظريته.
وفي القرن السابع عشر ظهرت طائفة من العلماء والفلاسفة.. تنكر وتشك في الحقائق التي ذكرها القدماء، وطلبت إثباتها بالتجربة، ومنهم فرانسيس بيكون الإنجليزي، وديكارت الفرنسي، وإسبينوزا الإسباني وغيرهم.
ثم جاء فولتير في عام 1965 وقال: إن الملك يفاخر بصولجانه، وأنا أفاخر بقلمي. فالملك له رعية من جميع الطبقات، وأنا رعيتي من المتعلمين والمثقفين. كتب فولتير سبعين كتاباً كلها للدفاع عن حق الإنسان في الحرية الفكرية ومكافحة الأفكار الظلامية والتعصب.
ثم يتحدث عن الثورة الفرنسية وهدم الباستيل واجتماع الجمعية العمومية في عام 1789، وقرر أن جميع الفرنسيين متساوين أمام الشرائع، ولا يمكن امتياز فرد على آخر، ولكل فرد حق المشاركة في وضع الشرائع، والأعباء الوطنية تقسم حسب مقدرة كل فرد. وأخيراً حرية اختيار الدين وحرية الخطابة والصحافة. وفي القرن التاسع عشر حدث تقدم عظيم في العلم، ووضع داروين نظريته في كتاب أصل الأنواع.
وفي مصر – في العصر الحديث – يعتبر أن النهضة الفكرية ظهرت في عهد الخديو إسماعيل، ويتحدث عن الأفغاني ومحمد عبده وقاسم أمين، وحدث اشتباك حول حرية الفكر في الإسلام والمسيحية بين محمد عبده وفرح أنطون.. وبدأ التضييق على الحريات والأفكار، وبرز ذلك عند ظهور كتاب الإسلام وأصول الحكم، وقبله صدور كتاب مصور بالفرنسية مُنع من التدريس بالجامعة، وبعدهما جاء كتاب في الشعر الجاهلي لطه حسين. ثم يختم كتابه بدفاع عظيم عن حرية الفكر والمعرفة، وبالتأكيد لم يشمل هذا الكتاب الكوارث التي حدثت للفكر في العقود التي تلت صدوره.
قوم يا مصري مصر دايماً بتناديك
نقلاً عن «المصري اليوم»