د. أحمد يوسف أحمد..
أدلى ستيف ويتكوف – مبعوث الرئيس ترامب للشرق الأوسط – أخيراً بحديث للإعلامي الأمريكي اليميني الشهير.. تاكر كارلسون، وهو حديث لا يكتسب أهميته من عمق تحليله، لأنه لم يفعل سوى تكرار مواقف إسرائيل.. التي تؤيدها إدارة ترامب على نحو مطلق، كما أن العمق التحليلي لا يُتوقَّع من ملياردير مستثمر ومطور عقاري.. حديث عهد بالسياسة كرئيسه، ولذلك فقد امتلأ الحديث بالغموض، وقد يكون مقصوداً، وكذلك التناقض الداخلي، وعدم اللياقة الدبلوماسية أحياناً.
ومع ذلك، فإن أهميته تنبع من أنه يعبر عن سياسة ترامب، وهي سياسة قد تلحق بها تغيرات في أي لحظة.. كما عودنا، وإن في إطار الالتزام القوي بأمن إسرائيل الذي لا يمنع تغير التكتيكات، كما لاحظنا غير مرة – ويمكن النظر للحديث من منظور محدد وهو الحرص على السلام في الإقليم، لكنه «سلام أمريكي»؛ أي بمواصفات وشروط أمريكية.. هي بالأساس مواصفات وشروط إسرائيلية، بمعنى أن ويتكوف يطرح رؤية للسلام، فإما أن تقبلها الأطراف المعنية، أو تكون القوة هي الأداة المناسبة لإجبار هذه الأطراف على السلام.. بغض النظر عن عدالة هذه الرؤية أو توازنها.
وعلى سبيل المثال، فـ«حماس» مطالبة بالتفريط في الورقة الوحيدة المضمونة الباقية في يدها.. وهي ورقة الأسرى، مقابل وقف إطلاق النار لمدة معينة، دون أن يكون هناك ما يضمن الانسحاب الإسرائيلي الكامل من غزة، أو أي أفق سياسي مقبول للحل، بل إنه من اللامعقول أن «حماس» مطالبة بالإفراج عن الأسرى الموجودين بحوزتها، والتخلي عن حكم غزة، وكذلك عن سلاحها مقابل خروج قادتها سالمين، وهو أمر لا يستقيم بأي منطق تفاوضي، ويعني ببساطة أن ما عجزت إسرائيل عن تحقيقه بالحرب حتى الآن.. تريد إنجازه الآن بدون حرب، وهي معادلة مستحيلة سياسياً، وهذا هو – بالتحديد – ما يقلق في حديث ويتكوف.. عن «حل جذري» للقضية الفلسطينية، سوف يكون – بهذه الطريقة – مساوياً لتصفيتها. ولا يوجد ما يوضح رؤية «السلام بالقوة».. أكثر مما رشح عن رسالة ترامب لطهران، ومفادها «أنا رئيس سلام، وهذا ما أريده، ولا داعي لنا لفعل ذلك عسكرياً. يجب أن نتحاور، وعلينا توضيح المفاهيم الخاطئة، وعلينا إنشاء برنامج تحقق.. حتى لا يقلق أحد بشأن برنامجكم النووي، وأود أن نصل لهذه النقطة، لأن البديل ليس جيداً»، وإن كان هذا العرض أكثر توازناً.. من العرض المقدم لحماس.
وقد أبدى ويتكوف – في حديثه – قلقاً يُشكر عليه! على مستقبل مصر ودول عربية أخرى. وكان واضحاً أن مصدر قلقه.. هو الوضع الاقتصادي في مصر، الذي لا أدري ما إذا كان ملماً به حقاً، لأنه استخدم رقماً فلكياً لنسبة البطالة في مصر(45%)، لا أدري من أين أتى به.. لدرجة أن الشك انتابني فيما إذا كان يعرف حقاً.. معنى معدل البطالة، أم أنه يخلط بينه وبين معدلات أخرى.. كالتضخم مثلاً. وقد حاولت عبثاً أن أجد رقماً – من مصدر دولي- يعزز رقم ويتكوف، أو يقترب منه، وكان الشيء الوحيد الذي عثرت عليه.. هو تقرير صادر عن صندوق النقد الدولي في أبريل 2024، عدَّل فيه توقعاته لمعدل البطالة المتوقع في مصر – من توقعها في أكتوبر 2023 – إلى7.5%، توقعها في أبريل 2024، ولنا أن نحكم على سياسات.. يمكن أن تُبْنى على هذا الخواء المعرفي.
والمشكلة أن ويتكوف رتب على تهيؤاته.. عن حالة الاقتصاد المصري، أن الوضع فيها قابل للانفجار في أي لحظة، بما يضيف إلى خطأ معلوماته.. سطحية تقديراته، ويُلاحظ أنه ليس قلقاً على الوضع في مصر خوفاً عليها، ولكن خوفاً على ما تحقق من سلام وتطبيع مع إسرائيل؛ لأنه يعتقد – وهذا هو الشيء الوحيد تقريباً الصحيح في تقديراته – أن ما يحدث في مصر.. يؤثر على المنطقة بأكملها، وبالتالي فإن أي تغيير في مصر، يهدد منجزات عملية التسوية السياسية للصراع العربي-الإسرائيلي ككل.
وقد اختلف المحللون في تفسير حديث ويتكوف، فمنهم من قال إن كلماته عن مصر تنطوي على تحذير، ومنهم من اعتبرها تهديداً، وآخرون تشككوا في أن يكون تحريضاً، ولعل ويتكوف يسعد بهذا الغموض، الذي جعل حديثه رسالة متعددة الأغراض.. لمن يهمه الأمر. بل لقد ذهب أحد الآراء إلى أن الحديث ينطوي على تحذير أو تهديد – غير مباشر – لإسرائيل، على أساس أنها.. إن لم تتوقف عن حربها في غزة، تخاطر بكل منجزات التسوية السلمية للصراع، بما في ذلك التطبيع مع دول عربية، ومعاذ الله أن يكون هذا التفسير صحيحاً، ونحن نرى ترامب يطلق يد إسرائيل.. في صب الجحيم على غزة والضفة.
وبغضِّ النظر عن الهدف..الذي قصدهويتكوفبحديثه – أو لم يقصده -عن الوضع الداخلي في مصر، فإنه ليس مستغرباً.. من رجل هبط على الدبلوماسية بالمظلة من طائرته العقارية، أن يبدو فاقداً للغة الدبلوماسية، فهو يتحدث عن دولة صديقة.. خاضت مع بلاده لأكثر من سنة.. مفاوضات لوقف القتال، وليت ويتكوف يكلف أحداً من مساعديه، بأن يجمع له معلومات عن الكيفية التي صمد بها الشعب المصري.. في مواجهة أزماته الخانقة عبر التاريخ عامة، ومنذ نهاية الحرب العالمية الثانية خاصة؛ سواء كانت أزمات أمنية، أم سياسية، أم اقتصادية. وكيف أن هذا الشعب لديه وحدته الوطنية الراسخة، وتقليده الأصيل في الالتفاف حول قيادته.. في أوقات الأزمات.
وعلى ويتكوف أن يعلم.. أنه – وإن كانت مصر ستستفيد بطبيعة الحال من الحل السريع والجذري.. للقضية الفلسطينية – فإن إسرائيل والولايات المتحدة سوف تكونان أكثر استفادة من هذا الحل، بسبب ما يُفضي إليه من استقرار في المنطقة، يشجع على ازدهارها ورخائها، ومن ثم تعزيز المناخ الذي يلائم الأنشطة المفضلة لدى ترامب.
غير أن المعضلة، أن الحل الذي تقترحه الإدارة الأمريكية – ومعها إسرائيل – ليس سوى وصفة أكيدة.. لاستدامة الصراع ومشاكله.
نقلاً عن «الأهرام»