Times of Egypt

حالتنا الاجتماعية بين قبول «الأبوة» ورفض «الأبوية» (1-2)

Mohamed Bosila
عمار علي حسن

عمار علي حسن..
حين يتقاعس الأب.. عن أداء دوره حيال أسرته، يصيب بنيانها الاجتماعي والنفسي في مقتل؛ حتى لو تيسرت لها سبل الإنفاق من مصادر أخرى.. بعيداً عن عقل الأب وساعده، أو بمنأى عن الجهد العضلي والعقلي.. المطلوب منه بذله في سبيل توفير حياة كريمة لمن يعول، لأن المال المعطى للأبناء بدافع ترتبه مسؤولية الأبوة، يختلف عن مثيله الممنوح مقابل العمل، أو ذلك المردود إلى الإحسان.
على النقيض من هذا، حين يفرط الأب في هذه الإعالة؛ فيتعدى بها حدود دوره الطبيعي والاجتماعي، ليمارس تحكماً كاملاً في كل شيء، ويطيب له قهر الزوجة والأبناء، ويتصرف طيلة الوقت.. على أنه هو من يعلم صالح الجميع، وأن حدود أدوارهم في الحياة.. يجب أن يرسم هو معالمها، ويدير سيرها أو مسلكها، الذي يعتقد هو بالضرورة.. أنه تقدم إلى الإمام، فإن هذا من شأنه أن يخلف ضرراً بالغاً للأسرة، إلى درجة أن بعض أفرادها يحسدون أقرانهم.. ممن يعيشون في كنف أب متقاعس أو متساهل، أو في ظل تفلت كامل في كنف أسرة منحلة، أو لا أسرة.
والفضيلة في هذا – كما تتجلى في أشياء كثيرة – هي منزلة بين منزلتين، أي ما بين «التقاعس» و«الإقحام»، أو «التفريط» و«الإفراط». فلا تجور الإعالة على الاستقلالية، ولا يقتل الحرص على متابعة حياة الأبناء حريتهم. ولا يؤدي التدخل في تفاصيل حياتهم اليومية وترتيب كل شيء فيها بداعي أن «الأب يعرف أكثر».. إلى صناعة عقول كسولة تابعة خاضعة مُستَلبة، تنتظر دوما من يفكر لها، ويقرر نيابة عنها، ثم يلزمها بقراره دون نقاش.
علينا ابتداء أن ندرك أربعة أمور مهمة، هي:
أولاً: أن النظام الأبوي ضارب بجذوره في أعماق التاريخ الاجتماعي، وهو مرتبط – في تصور كثيرين – بنزعة «الهيمنة الذكورية».. التي تؤمن بحتمية بيولوجية، تفرض وجود المرأة زوراً في مرتبة ثانية أو ثانوية.. في كل الأحوال، لأن جسدها ونفسها لا يؤهلانها إلا لهذا فحسب، ولذا فعليها أن تخضع للرجل. وجاءت تصورات دينية.. لتؤكد أن هذا يمثل إرادة كونية، وقدمت تبريرات لذلك الخضوع. وردت الحركة النِّسوية على هذا، وقدمت أدلة مضادة من التاريخ الاجتماعي والتصورات الدينية، أرادت من خلاله إثبات أن العائلة ليست نبعاً حيوياً للراحة والأمان والألفة والود، وحسن الصحبة والانسجام والتناغم والتفاهم، بل هي مصدر للاستغلال والوحشة واللامساواة العميقة أو انعدام التكافؤ، والإيذاء البدني للزوجات والأطفال.
ثانياً: يُنظر إلى «الثقافة الأبوية» – وإن كانت لفظا – مسنودة أو محالة إلى «الأب».. بالمعنى البيولوجي، على أنها مسألة تتجاوز هذا إلى المعنى «الثقافي» و«السياسي»؛ الذي أنتج اصطلاح «البطريركية» في أدبيات علم الاجتماع السياسي.. على وجه الخصوص، وهو يعني قيام فرد أو جماعة أو منظمة أو سلطة أو نظام سياسي أو دولة.. بالاعتقاد في أنها تفهم وتقدر مصلحة الأشخاص والمجتمع، وعلى الجميع أن يثق فيها، ويسلمها أمره، ويسقط من ذهنه ونفسه كل ما يتعلق بحقه في اتخاذ قرار مستقل، أو تقرير مصيره بيده، لأن في هذا ما يعود عليه بالنفع.
ثالثاً: أن «الأبوية» أصبحت اقتراباً اجتماعياً ونفسياً.. صالحاً لتفسير مستوى «التنمية السياسية» في بعض المجتمعات. ولعل ما قدمه هشام شرابي في كتابه «النظام الأبوي وإشكالية تخلف المجتمع العربي» يُعد مثالاً واضحاً على هذا الاقتراب، حيث تعامل مع الأبوية على أنها نظام اجتماعي يرتكز بالأساس على العادات والتقاليد، نظراً لأن أكبر الذكور أو الأب أو الأهل يمارس سلطة على الزوجة والأبناء، لا سيما الفتيات. فيما يحظى الأخ بسلطة على أخته أو والدته في بعض الأحيان، ويمتد هذا إلى «ولي الأمر الأكبر».. وهو السلطة السياسية، التي تعني أبويتها «نزعتها السلطوية الشاملة التي ترفض النقد، ولا تقبل بالحوار، إلا أسلوباً لفرض رأيها فرضاً. إنها ذهنية امتلاك الحقيقة الواحدة، التي لا تعرف الشك، ولا تقر بإمكانية إعادة النظر».
رابعاً: هناك فرق بين «الأبوة» Fatherhood والأبوية Paternalism، فالأولى تتعلق برجل يمكن من خلاله تتبع روابط الانتساب، أو تنقل عبره حقوق الملكية، أو يمنح طفلاً عضوية اجتماعية كاملة. أما الثانية فهي تخص علاقة اجتماعية يتبني فيها الطرف المسيطر اتجاهات وممارسات يفرضها على من حوله من رعاياه، ولها مظاهر وجود متعددة في الواقع؛ مثل علاقة الزوج بزوجته، وصاحب العمل والعامل، والسيد والعبد، والحاكم الطاغية بشعبه. ويعتقد أن هذه العلاقة تخدم مصالح الرجال.. في وجه النساء، والطبقة المهيمنة.. في مقابل الطبقة العاملة، والعنصر الذي يتوهم السيادة.. في وجه عنصر يرميه بالعبودية.
وإذا كانت الأبوة مطلوبة.. كدور اجتماعي لا فكاك منه، أمام الرجال الأسوياء الراغبين والقادرين على أن يعطوا الحياة مددا؛ بالحفاظ على النسل، وتربية أجيال متلاحقة. فإن الأبوية.. كمنزع للتسلط، ملفوظة، بدءا من الأسرة وانتهاء بالدولة مروراً بتنظيم المؤسسات الرئيسية في المجتمع.
ومع هذا، ليس من الإنصاف أن نربط الأبوية بالرجال فقط، ففي بعض الأسر، التي تقودها نساء من المطلقات والأرامل، تلعب المرأة الدور نفسه، منطلقات أحياناً من شعور جارف بالمسؤولية المضاعفة عن الرعاية والتربية والتوجيه، في ظل غياب الرجال أو تقاعسهم عن أداء دورهم لأسباب عدة، بعضها يتعلق بالنزاع الأسري.
وفي أسر أخرى يطغى دور المرأة إلى حد كبير، وهي مسألة برهنت عليها دراسات اجتماعية أجريت على مختلف المجتمعات البشرية، بما فيها المجتمعات التقليدية التي يعتقد كثيرون، للوهلة الأولى، أن النساء فيها يعانين من اضطهاد أو تمييز شديد، فإذا بهن يسيطرن على مصير الأسرة كاملة، وأحياناً العائلة، مثلما تفعل الجدات الطاعنات في السن؛ حين يتصرفن باعتبارهن مصدر الحكمة والإلهام والمصلحة والخبرة والإلمام بتاريخ العائلة الممتدة، مما يعطيهن قدرة على إصدار أوامر للأبناء والأحفاد، وعليهم تنفيذها.
وفي كل الأسر تقريباً تتجاور وتتفاعل فيها «الأبوة» مع «الأبوية»، فبينما تكون الأسرة هي وحدة اجتماعية إنتاجية، تقوم على علاقات التعاون والود والالتزام.. بفعل ضرورات الاعتماد المتبادل، واستعداد كل فرد فيها لبذل قصارى جهده في سبيل سد احتياجاتها، فإنها في الوقت نفسه هي أبوية حيث تتمركز السلطة والمسؤوليات والامتيازات والانتساب في يد البعض أو شخص واحد، وهي هرمية على أساس الجنس والعمر والتنشئة الاجتماعية اللذين يفرضان تدرجاً في المكانة والهيبة وحق إصدار الأوامر.
(.. ونكمل غدا إن شاء الله).
نقلاً عن «المصري اليوم»

شارك هذه المقالة
اترك تعليق

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

For security, use of Google's reCAPTCHA service is required which is subject to the Google Privacy Policy and Terms of Use.