عمار علي حسن..
يجب ألا يمتد رفض الأبوية – وهو مسألة ضرورية – إلى الجور على دور «رب الأسرة»..أياً كان – الأب أو الأرملة أو المطلقة أو الابن الأكبر – في أمرين: الأول: هو أن يراقب مردود ما ينفقه على أسرته، ويقيّمه طيلة الوقت.. من منطلق القاعدة التي تقول: «الذي ينفق، من حقه أن يسأل». والثاني:هو أن يقوم بما عليه.. من مساهمة في قيام «الضبط الاجتماعي»؛ الذي يبدأ بالتوجيه والنصيحة، وينتهي بالعقاب تحت راية الأسرة؛ وهو ليس العقاب البدني بالطبع، إنما الاستهجان واللوم والتوبيخ.. وصولاً إلى الحرمان من الهدايا والمصروف… إلخ.
لكن التطور الاجتماعي لم يجعل «الأبوية» حكراً على «رب الأسرة»، بل ظهرت لها منابر ومصادر أخرى؛ فالقائمون على المدارس من النُظَّار والمديرين وكبار المدرسين، لم يلبثوا أن مارسوا هذا الأمر.. معتبرين إياه حقاً، لا سيما مع إيمان المدارس بأن دورها.. يجب ألا يقتصر على التعليم، بل يمتد إلى التربية أيضاً، فبعض هؤلاء تصرف – طيلة الوقت – على أساس أنه يعرف صالح التلاميذ والطلاب، وأن عليهم أن ينصاعوا لإرادتهم، وأن نقاش ما يصدرونه من أوامر.. هو نوع من التمرد. أو على الأقل.. عدم اللياقة.
وجاءت وسائل الإعلام التقليدي، لترمي بثقلها على هذا الدرب، حين قدمت إلى الجيل الجديد.. شخصيات صارت قادة للرأي في المجتمع. وبعض هؤلاء.. انزلق في أداء دوره إلى أبوية ما، لا سيما في أيام الأزمات، مقدماً بعض نصائحه.. حول ما يراه «الواجب الوطني»،أو «الفرض الديني». لكن مواقع التواصل الاجتماعي، أعطت الأجيال الحالية.. مساحة للتعبير عن آرائها، وقدرة على التمرد، والبحث الحر والذاتي.. عن المنابر التي يمكن متابعتها، والتعلم منها؛ ما أدى إلى تراجع الأبوية تباعاً.. تحت وطأة التفكير الشبكي، الذي صارت الأجيال الجديدة تجيده؛ بحكم تفاعلها الشديد.. مع وسائل التواصل المعاصرة، التي لا تكاد تنتهي دوائرها ودواخلها.. المتلاحقة.
وهناك مؤسسات تقليدية.. مستمرة في ممارسة أبويتها، على الأفراد المنتمين إليها.. بلا توقف، لأنها تعتبر هذا المسلك.. جزءاً أساسياً من أسباب وجودها، واستمرارها. وتتصور أن تهاونها في هذا الأمر، يعني تفككها وانهيارها. ولهذا، فهي تقوم بأمرين متزامنين.. لضمان تحصيل ذلك: الأول: هو تهيئة الفرد الداخل إليها.. لتقبُّل الانقياد أو الانصياع، والطاعة العمياء.. عبر ملء رأسه بأفكار تنبع من نسق متكامل لديها، تزعم أنه مطلق، أي لا يقبل النقاش والجدل، والمساءلة والمراجعة. والثاني:هو تدريب هذا الفرد – الذي يعتقد أن إرادته الحرة.. هي التي قادته إلى الانتماء إلى تلك المؤسسات – على تقبُّل تلك الطاعة، عبر برنامج موضوع بعناية، استفادت منه هذه المؤسسات، من خبرتها الذاتية تارة، ومن خبرات مثيلاتها عبر التاريخ العربي-الإسلامي طوراً. وكذلك التنظيمات الأخرى التي عرفها العالم، وكانت تسيطر عليها أيديولوجيات مصمتة أحادية.
وهذه المؤسسات، ليست كتلك المتعارف عليها إدارياً، التي تخضع لهرمية تتسم بالمرونة، وتتطلب وجود نقاش داخلي، وصعود الآراء.. من أسفل إلى أعلى، مقابل هبوط الأوامر.. من أعلى إلى أسفل، إنما هي تنظيمات عقائدية صارمة، يصدر الجالسون على رأسها أوامر لأتباعهم، وليس أمامهم سوى «السمع والطاعة».
وبينما ترى المؤسسات الإدارية، والاجتماعية، والسياسية الطبيعية.. أن وجود تغذية ارتجاعية – أو مرتدة – بين القاع والقمة.. يسهل عملها. فإن التنظيمات الدينية المتطرفة، لا تعتقد في فائدة هذا أصلاً، بل ترى أنه يعطلها عن أداء مهامها؛ لا سيما إن كانت تمارس عملاً سرياً، أو عنيفاً، أو الاثنين معاً.
لهذا، لا يكون أمام هذه التنظيمات من سبيل، سوى ممارسة «أبوية طاغية»؛ تبدأ برأس الجماعة – أو أميرها، أو مرشدها – الذي معه «الأبوية الكاملة»، ومنه يستمد الصف الأول من القيادات أبويات فرعية، فقائد الشعبة أو الفرقة أو المجموعة أو السرية.. له أيضاً حق الطاعة، المشروط بقواعد صارمة.. لا تقبل النقاش أبداً.
ومع هذا، يتمتع ذلك النوع من الأبوية.. بقبول لا يتأتى للأبوية الأسرية؛ فداخل الأسرة، هناك مشاعر وتصورات.. تجعل الصغير ينتظر عطفاً من الكبير، وحتى داخل النظام السياسي – مهما كانت درجة شموليته – هناك فهم ومعرفة بالحقوق والواجبات، ولو في حدها الأدنى.. عند فئات واعية من الشعب، تجعل البعض يتمرد على الأبوية. والكل يفهم أن قبوله لها – إن كان هذا – هو نوع من القهر، أو الخضوع للأمر الواقع.. انتظاراً للحظة الانقضاض عليها، أو الانفضاض منها، وتغييرها.
أما داخل التنظيمات الدينية، أو الأيديولوجية المتشددة، فإن الفرد يعتقد أن تنازله عن حقه في رفض الإملاءات أو الوصاية، هو جزء من واجباته حيال التنظيم، تحت شعارات من قبَل..«الكل في واحد»،و«إذا كنتم ثلاثة فأمّروا أحدكم»،و«المريد بين يدي شيخه كالميت بين يدي مُغسِّله»؛ دون امتلاك الحق في التساؤل.. عما إذا كان الأمير أو المرشد جديراً بالطاعة الكاملة أم لا. والأهم، ما إذا كان كل ما يراه، ويقوله، ويأمر به.. جديراً بالسمع من عدمه.
إن هذه هي أشد أنواع «الأبويات» ضرراً، لأنها لا تستند بالأساس إلى توهم «الأب»..أنه يعرف أكثر، ويغير أكثر على الصالح العام، وينزع دوماً إلى ما فيه الفائدة؛ فكل هذه – في حالة الأسرة الاجتماعية، أو العائلة، أو حتى الحزب القائم على الزعامة – قد تكون.. بالنسبة لأي من الأفراد التابعين، أو بعضهم.. مجرد تخرصات أو مزاعم. لكنها ليست كذلك أبداً.. في حال التنظيمات الدينية، لأنها تلبس لبوس القداسة؛فالأب الكبير المزعوم.. هو وكيل السماء، أو حارس الدين، أو راعي الدعوة، أو المرشد العام لها، أو أمير الجماعة.. التي تعمل من أجل ما يريده الله. وبالتالي، فإن الخروج على هذه الأبوية.. هو خروج على الدين، ومفارقة الجماعة. وفي أقل حالاته.. هو فسق أو فجور أو تفلت؛ عواقبه أوخم من عواقب من يتم اتهامه زوراً.. من قبل الأبوية السياسية العادية، بأنه نقص في الوطنية، أو خيانة للوطن.
وهذا النوع من «الأبوية»..هو أخطرها، لسبب بسيط.. هو أنه يتمكن – طيلة الوقت – من تطويع الوسائل والوسائط الحديثة.. لخدمة أهدافه ومسلكه التقليدي؛ فيستخدم أحدث ما جادت به تقنيات الاتصال.. في ترويج وترسيخ مسألة الطاعة العمياء.
نقلاً عن «المصري اليوم»