د. أحمد يوسف أحمد
في مواجهة التطورات الدامية.. التي تجري في الشرق الأوسط منذ أكثر من سنة، تتعدد التحليلات حول طبيعة ما يجري، واستشراف مستقبله.
وبالنظر إلى التعقيد الشديد.. الذي تتسم به تلك التطورات، وكذلك اختلاف التوجهات الأيديولوجية والسياسية، يُلاحظ أن بعض التحليلات تغيب عنها البوصلة الصحيحة. وأعتقد أن نقطة البداية في تصحيح البوصلة، هي العودة إلى جوهر الصراع.. الذي نشهد الآن واحداً من أعنف تجلياته. فبدون هذه العودة، يمكن أن يأتي الحكم على المواقف مشوشاً.. بل ومغلوطاً.
ويجب أن يكون واضحاً أن جوهر الصراع – بالتأكيد – يرتبط بحالة استعمارية؛ طرفاها: إسرائيل.. صاحبة المشروع الاستعماري الاستيطاني الإحلالي في فلسطين؛ التي تمثل الطرف الثاني.
وهو المشروع الذي بدأت أولى إرهاصاته.. بإعلان المؤتمر الصهيوني الأول في بازل بسويسرا 1897، هدف إنشاء دولة يهودية في فلسطين، ثم تتابعت الخطوات لتنفيذه حتى إعلان دولة إسرائيل في 1948، التي تمكنت من احتلال باقي فلسطين في عدوان 1967.
وإذا كان بعض التحليلات.. يرى أن لإسرائيل شرعية دولية بموجب قرار التقسيم 1947، فإن وجودها في الأراضي التي احتُلَّت في 1967.. غير شرعي، بموجب مبادئ القانون الدولي والقرارات الأممية. كذلك فإنه إذا كانت الدول العربية كافة.. قد قبلت – من حيث المبدأ، وجود إسرائيل في حدود 1948 – بموجب مبادرتي فاس 1982، والمبادرة العربية 2002 – فإن شروطها تربط إقامة السلام مع إسرائيل.. بجلائها عن الأراضي المحتلة في 1967، وإقامة الدولة الفلسطينية، وغير ذلك من المطالب العربية.
ويكتسب هذا التكييف الاستعماري للوجود الإسرائيلي في غزة والضفة.. أهمية فائقة في تحديد الموقف مما يجريح فبدونه يصبح العمل.. الذي قامت به فصائل المقاومة الفلسطينية في غزة عملاً إرهابياً بامتياز. أما عندما نُدخل الطبيعة الاستعمارية لإسرائيل في الحسبان، فإنه يصبح عملاً مشروعاً لمقاومة الاحتلال. وهو معنى فطن إليه الأمين العام للأمم المتحدة.. عندما أدلى – عقب شن عملية «طوفان الأقصى» – بتصريحه الشهير، بأن ما وقع ليس بلا أساس، مُلَمحاً إلى واقع الاحتلال الإسرائيلي، وممارساته الهمجية في الأراضي الفلسطينية.
ويُلاحظ كذلك أن غالبية الدول الأوروبية – ناهيك عن الولايات المتحدة بطبيعة الحال – لا تتردد للحظة واحدة في اعتبار أعمال المقاومة الفلسطينية.. إرهاباً وحشياً، يعطي لإسرائيل مطلق الحق في الدفاع عن نفسها. مع أن الضحية الأولى – التي تحتاج الحماية – هي الشعب الفلسطيني. بينما تتبنى دول أوروبية أخرى..على رأسها أيرلندا، مواقف تجاه الممارسات الإسرائيلية في فلسطين، لا تختلف عن المواقف العربية المؤيدة للحق الفلسطيني، إن لم تتجاوز بعضها، نتيجة المعاناة الأيرلندية من الممارسات الاستعمارية في الماضي. وهو الأمر الذي يثبت أن فهم جوهر الصراع، هو السبيل إلى اتخاذ المواقف الصحيحة المتقدمة مما يجري.
كذلك يتسبب إغفال الجوهر الحقيقي للصراع.. في تحليلات تعتبر أن الصراع الراهن هو صراع بين إسرائيل وإيران بامتياز. ومن الحقيقي أن ثمة صراعاً بين الطرفين، وهو صراع نرى مظاهره في المواجهة الحالية بوضوح، سواء كما تتبدَّى في الرعاية الإيرانية لكل الفصائل المنخرطة في الصراع، أو من خلال الضربات المتبادلة بين إسرائيل وإيران. وهي وإن كانت ظاهرة سبقت المواجهة الحالية، إلا أنها كانت غير مباشرة وغير معلنة؛ كما في الضربات السيبرانية الإسرائيلية لأهداف حيوية داخل إيران، أو في اغتيال علماء ذرة أو قيادات في الحرس الثوري الإيراني. أما الآن فهي مباشرة ومعلنة كما في الضربة الجوية الإسرائيلية على مبنى تابع للقنصلية الإيرانية في دمشق في مطلع أبريل الماضي، مما أدى إلى مصرع 16 شخصاً من بينهم قائد كبير في فيلق القدس التابع للحرس الثوري الإيراني و7 ضباط آخرين. وهو الهجوم الذي ردت عليه إيران في منتصف الشهر ذاته باستخدام صواريخ باليستية وصواريخ كروز ومسيرات، والذي اعتُبر السابقة الأولى التي تهاجم فيها إيران إسرائيل بشكل مباشر.
وتكرر نفس السيناريو بعد اغتيال رئيس المكتب السياسي لحماس اسماعيل هنية.. نهاية يوليو في طهران، أثناء مشاركته في مراسم تنصيب الرئيس الإيراني الجديد، ورد إيران بعد أشهر بهجوم صاروخي واسع في مطلع أكتوبر الحالي، ثم الرد المضاد لإسرائيل منذ أيام بضربات وصفتها المصادر الإسرائيلية بأنها دقيقة ومحددة على مواقع عسكرية إيرانية.
وبغض النظر عن الجدل حول فاعلية هذه الضربات المتبادلة واحتمالات استمرار مسلسلها وتصعيده، فإن هذه المواجهات لا تبرر وصف الحرب الحالية في المنطقة بأنها حرب إسرائيلية-إيرانية، وذلك لأن العودة للجوهر.. تُظهر أن كل ما يجري من تقلصات عنيفة شديدة الوضوح في المنطقة.. مرده – في التحليل الأخير – تداعيات المشروع الصهيوني على أرض فلسطين. وحتى لو سلمنا جدلاً بوجهة النظر التي يتبناها البعض؛ ومفادها أن إيران ليست صادقة في عدائها لإسرائيل، وإنما هي توظف الصراع العربي-الإسرائيلي من أجل زيادة نفوذها في الإقليم، فإن التحليل السابق يبقى سليماً؛ بمعنى أنه لولا هذا الصراع لما كانت هذه السياسات الإيرانية.
وعليه فإن مصدر الصراع الأصيل، والمواجهات السابقة والحالية في المنطقة هو الصراع العربي-الإسرائيلي الذي فاق القرن عمراً، ومازال مرشحاً للاستمرار عقوداً قادمة، ولذلك فإن أي محاولة لإقناعنا بأن الحرب الجارية في الشرق الأوسط هي حرب إيرانية-إسرائيلية.. هي محاولة بلا أساس.
وحتى لو كانت هناك مصادر ذاتية لصراع إيراني-إسرائيلي، فإن هذا الصراع صراع ثانوي بالنسبة لنا، ومن شأن النظر إليه باعتباره الصراع الرئيسي، أن يحرفنا عن بوصلتنا الأصلية.. التي تتمثل في ضرورة الانتباه للمخاطر المرتبطة بالمشروع الصهيوني التوسعي، والتي ستتجاوز فلسطين والأردن ولبنان وسوريا ومصر بكثير.. إلى الوطن العربي كله؛ إذا تمكنت إسرائيل من تحقيق انتصار واضحٍ – لا قدر الله – في جولة الصراع الحالية.
نقلاً عن «الأهرام»