Times of Egypt

بين كارتر وعدوية! 

Mohamed Bosila
عبدالله عبدالسلام 

عبدالله عبدالسلام 

 
إذا كان هناك شخص يُجسد فترة السبعينيات على المستوى الغنائي، وتأثيراتها على المجتمع المصري.. فإن المطرب أحمد عدوية هذا الشخص بجدارة. وإذا كان هناك سياسي يختزل المشهد السياسي الأمريكي نهاية السبعينيات.. فهو الرئيس الأمريكي جيمي كارتر. سطع نجما كارتر وعدوية في ذلك العقد، كل لأسبابه وقدراته وظروفه المختلفة. لم ينتميا للمؤسسة الرسمية، وراهن كثيرون على فشلهما وانتهاء ظاهرتيهما، لكنهما فاجآ الجميع.. وواصلا العمل والإنجاز، رغم انحسار الأضواء عنهما، ليرحلا في نفس اليوم (الأحد الماضي) بعد أن رحلت زوجة كارتر قبله بـ 13 شهراً، وزوجة عدوية قبله بـ 7 أشهر. 

كان عدوية نتاج هزيمة 1967، وفقدان الجماهير – خاصة المهمشة والفقيرة – الثقة في مؤسسة الغناء الرسمية، وفي السياسة عامة. لكن شهرته تزامنت مع سنوات الانفتاح الاقتصادي، واتساع الفجوة بين ما تعد به السلطة، وبين الواقع المعيش.  

وجد فيه سكان المناطق الفقيرة والعشوائيات.. الصوت المعبر عنهم. وكما يقول الباحث البريطاني أندرو سيمون في كتابه: «إعلام الجماهير.. ثقافة الكاسيت في مصر الحديثة» (2022)، فإن صوته خرج من شوارع وأزقة القاهرة.. ليقتحم آذان الطبقة الوسطى، ويفرض عليها أغانيها.  

ساعده في ذلك شريط الكاسيت، الذي لجأ إليه.. بعد أن سدت الإذاعة أبوابها أمامه؛ باعتبار أن أغنياته «مبتذلة». سجل أول شريط له عام 1973، ليحقق نجاحاً غير مسبوق، ويبيع مليون شريط.  

… اعتبرت المؤسسة الرسمية الغنائية، والصحافة.. أن «الذوق الفني مات».  

هاجم الفنان محمد عبدالمطلب عدوية وزملاءه، ووصف أغانيهم بأنها «تجارة رخيصة، يحاول صُناعها التفوق على بعضهم البعض.. في إثبات قدرتهم وتفوقهم، في إفساد ذوق الجيل الجديد». 

لكنه ثبت في الساحة، وواصل تألقه، ليعيد كبار الفنانين والكتاب.. الاعتبار إليه. وصف نجيب محفوظ صوته بأنه.. مليء بالشجن، وقال إنه يعجبه. محمد عبدالوهاب امتدحه، لكنه اعتبره ظاهرة عابرة.  

هل كان عدوية بالفعل كذلك؟  

نعم، تراجع الإقبال على أغانيه، لكن أصبح الأب الروحي لأجيال جديدة.. آخرها مطربو المهرجانات الجدد. وهذا هو إرثه الحقيقي.  

قبله، ظهر مطربون شعبيون عظام.. كانوا جزءاً من مؤسسة الغناء الرسمية، لكنهم لم يحفروا في أذهان وقلوب الناس مثله. عدوية ابن الشارع والحارة ورفيق سائقي الأجرة والأتوبيس. أغانيه مثل زحمة يا دنيا زحمة، وحبة فوق وحبة تحت، وسلامتها أم حسن، وكله على كله، تؤرخ لمراحل مهمة.. في تطور مصر الاقتصادي والاجتماعي والفني، وإن كان الفنان لم يقصد ذلك. 

أما كارتر، فكان نتاج التفكك الاجتماعي.. الذي ضرب أمريكا نتيجة حرب فيتنام، وفقدان الثقة في السياسيين، لتتعمق الجراح مع فضيحة ووترجيت.. التي أجبرت نيكسون على الاستقالة.  

جاء من خارج المؤسسة، وخاطب الأمريكيين بشعار بسيط: «لن أكذب عليكم أبداً».  

قدم نفسه على أنه مزارع الفول السوداني، ابن الجنوب الأمريكي، الصادق المتواضع الذي يخاف الله.  

عندما تولى الرئاسة عام 1977، وعد بحكومة جيدة صادقة محترمة ورحيمة. لعب دوراً حاسماً في التوصل لاتفاق السلام المصري-الإسرائيلي، لكنه واجه تباطؤاً اقتصادياً وتضخماً وأزمة طاقة، ثم كان احتجاز الرهائن الأمريكيين في طهران لمدة 444 يوماً، سببا في أن يخسر الانتخابات، ويسلم الرئاسة على طبق من ذهب.. إلى ريجان.  

اعتبره سياسيون ومؤرخون.. أفشل رئيس في العصر الحديث، لكنه أعاد اختراع مفهوم الرئيس السابق. قبله كان الرؤساء الأمريكيون.. عندما ينهون فترات رئاساتهم، يعودون إلى مدنهم وبلداتهم، يقيمون مكتبة أو متحفاً.. للحفاظ على وثائقهم وتراثهم. 

شق كارتر مساراً جديداً، وشرع في تنفيذ مشروعات إنسانية وخيرية. أسس «مركز كارتر لصنع السلام ومحاربة الأمراض وبناء الأمل»، وقام بمراقبة عشرات الانتخابات في العالم، وضمان نزاهتها. حارب الفقر والتشرد في الدول الفقيرة، ولعب دوراً فعّالاً في القضاء على أمراض متوطنة بأفريقيا.. ليفوز بجائزة نوبل للسلام عام 2002.  

انتقد السياسات الأمريكية في الشرق الأوسط، وفجَّر أزمة كبرى عام 2006، عندما قال «إن بناء المستوطنات في الضفة الغربية يرقى إلى مستويات الفصل العنصري بجنوب أفريقيا».  

الصورة الدائمة التي يتذكره العالم بها، وهو يضع في فمه مجموعة مسامير، يلتقط الواحد تلو الآخر، ويدقها بالشاكوش.. خلال مشاركته في بناء منزل أحد فقراء العالم الثالث.  

بالنسبة له، كل حياة لها قيمة وكل حياة تستحق الإنقاذ. 

عندما بدأ عدوية مسيرته بعيداً عن النخبة، أمطرته انتقادات واتهامات.. بالضحالة والسطحية وإفساد الذوق. وعندما ظهر كارتر.. سخرت منه المؤسسة الحاكمة؛ بما في ذلك حزبه الديمقراطي.  

ما تركه المطرب والسياسي، يؤكد أن الفرد المبدع.. يمكنه تغيير العالم. حتى لو لم يكن صاحب منصب، أو ضمن شلة، أو مسنوداً من سلطة. 

نقلاً عن «المصري اليوم« 

شارك هذه المقالة
اترك تعليق

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

For security, use of Google's reCAPTCHA service is required which is subject to the Google Privacy Policy and Terms of Use.