أحمد الجمال
من صميم مواجهة خطة التفتيت والتفكيك.. التي ما زالت – في اعتقادي – على أولويات جدول أعمال القوى التي تستهدف مصر، أن تسعى القوى والتيارات والأحزاب المصرية.. للتقارب والائتلاف، بدلاً عن التوزع غير المنطقي، وغير الفاعل.. إلى نتف قزمية تشتبك ذاتياً في داخلها، بدلاً عن أن تكون لها «وظائف أعضاء» متفاعلة.. ومستجيبة لمحيطها، وللتحديات التي تجابه تحقيق أهدافها.. غير المنفصلة عن أهداف الكل الوطني، رغم اختلاف زوايا الرؤية، وبرامج التطبيق.
ولقد كنت – وما زلت – أميز في العمل العام.. السياسي والاجتماعي، بين تكوينات تمثل أجساداً حية، وبين هياكل تمثل جثامين متردية؛ حيث الفرق هو أن الجسد الحي.. له وظائف أعضاء، ومشتبك مع محيطه؛ يتنفس الهواء، ويأكل الطعام، ويعمل ويُنتج، ويراكم الخبرات ويتعلم منها، ويتكاثر لأجل استمرار النوع. بينما الجثمان.. هو تكوين مشتبك في داخله؛ حيث تعمل فيه عوامل التحلل عملها، ولا يتنفس ولكن تفوح غازات تحلله لتزكم الأنوف وتنقل العدوى، ولا وظائف لأعضائه، لأن الأعضاء أصابها ما أصاب البقية إلى آخر ما هو معروف عن الرميم.
وهكذا هي القاعدة الحاكمة لكل تكوين سياسي أو اجتماعي.. أو حتى هامشي. ما لم يمارس مهمته بشكل صحيح، ويتفاعل مع الآخرين، ويستجيب للتحديات التي تجابهه وتجابه الوطن.. فإنه يضحى بؤرة لما سبق ووصفت به الجثمان. وعلى ذلك فإن الدعوة للسعي نحو كتل سياسية كبيرة وثقيلة الوزن السياسي، تأتي بعد أن عانينا – كمهتمين بالعمل العام – عدم فاعلية التكوينات القائمة وشيوع الفراغ في الحياة السياسية، حيث لا يمكن أن يبقى الفراغ فراغاً ولا بد أن يمتلئ، فانفتح الباب أمام قوى غير مؤهلة.. بأي معيار دستوري وقانوني، كي تعوض غياب الفاعلين الأصليين.
ثم إن خطورة تجاهل السعي للتكامل.. بالائتلاف أو الجبهات الوطنية العريضة، تتمثل في المأساة التي شاهدناها ومزقت أفئدتنا.. في بلد كسوريا، وكان من أبرز ملامحها هو تفتيت الكل الوطني إلى انتماءات أوّلية فرعية، بعضها ميكروسكوبي ضئيل، ولكنه يمثل قوقعة الحماية للمنتمين إليه، وهو أيضاً تفكيك الوطن السوري جغرافياً وجهوياً ومناطقياً، حتى تحول الجسد السوري.. الذي كان مصدراً لطاقات وطنية، حررت التراب الوطني من الاستعمار القديم، وطاقات قومية عروبية الثقافة والوجدان جعلت سوريا في طليعة العاملين لوحدة عربية شاملة، وطاقات علمية وإبداعية في كل مجالات القوة الناعمة، حولته إلى جثمان.. تشتبك في داخله عوامل التحلل الاجتماعي والديني والطائفي والمذهبي والعشائري والجهوي، حتى تم تدمير ما أسميه «جهاز المناعة الوطني»، ليصير التراب والموارد الوطنية نهباً لكل طامع.. من الإقليم ومن العالم، وتعمقت الشروخ الرأسية والأفقية بين فئات الشعب بعضها البعض، وبينها وبين الجيش، وبين الجميع وبين النظام الحاكم.. الذي ومنذ خمسين سنة وأكثر قليلاً، لم يعمل على لمّ الشمل وفتح المجال العام، إلى آخر ما نعرفه عن الاستبداد والقمع، الذي ازداد طينه بللاً.. بالغطاء الطائفي الذي انتسب إليه الحاكمون هناك.
إن معادلة صون الأوطان.. كل لا يتجزأ، وإذا أصاب العطب جزءاً فتسرطن أو تحلل، فإن العدوى تنتقل إلى البقية، طال الزمن أم قصر.
ولقد شاهدت وتعاملت.. في أثناء انغماسي في العمل السياسي العام داخل مصر وخارجها؛ حيث كنت – بحكم ظروف عديدة – ألتقي ما كان يسمى «القوى الحية» في الأمة العربية؛ أحزاباً وتنظيمات تنتسب لفكرة واحدة، ولكن التشرذم أصابها فتعددت اللافتات التي تحمل إشارة للفكرة أو الاتجاه، ولكن تحمل أيضاً وصفاً فرعياً. وما زلت أذكر أن الفصائل الفلسطينية – مثلاً – كان فيها اتجاه يعتنق الاشتراكية العلمية، أي الماركسية، وكانت الجبهة الشعبية تعبيراً عنه، ثم حدث التشظي فنشأت «الجبهة الشعبية القيادة العامة»، وكذلك حدث مع «فتح» أكبر وأقوى تنظيم، فجاءت فتح الانتفاضة، وعرفنا في الاتجاه القومي منظمة فلسطين العربية وجبهة تحرير فلسطين وغيرهما.
وفي سوريا أيضاً.. لم تفلت الحياة الحزبية من آفة الانقسامات والتشظيات، وهكذا في العراق.. وكانت النتيجة كما صار وعايشناه، وتمزقت أفئدتنا منه.
لقد آن أوان الانطلاق في مصر، لكي يلتئم شمل المتقاربين في التوجه الفكري والسياسي والاجتماعي.. من مختلف المشارب الليبرالية واليسارية، ومن هم على يمين أو يسار هذين المشربين، ليصير الكل – بعد ذلك – في واحد وطني؛ هو مصر المتماسكة المتوازنة القوية.. المؤثرة في دوائر محيطها الأفريقي والعربي والشرق أوسطي. فلن يرحم التاريخ أحداً.. كان في إمكانه مقاومة التفتيت والتفكيك، ولم يقم بدوره.
نقلاً عن «الأهرام»