عمار علي حسن
لم يأتِ تعاطف مواطني الغرب مع القضية الفلسطينية بغتة؛ دون إرهاصات دلت عليه، ومقدمات مهدت له.. إنما تراكمت أسبابه على مدار السنين الفائتة، جعلت شوارع مدن أوروبية وأمريكية عدة.. تفيض بالمحتجين على «الإبادة الجماعية» لأهل قطاع غزة على يد الجيش الإسرائيلي، في انفعال ظاهر بالأحداث الدامية، وتفاعل خلَّاق معها، يجب ألا يذهب سُدى، ويروح بلا جدوى، فقد كانت هناك بيئة اجتماعية وسياسية مواتية لهذا الانفعال.. المجرد عن الافتعال؛ هي من صناعة شعور الناس بالثقوب والعيوب الموصومة بها «الديمقراطية التمثيلية»، ونفورهم من ظهور موجات من العنصرية الممقوتة، وإدراكهم لتأزم الطرح الليبرالي، إثر إصابة نالت من قيمه الأساسية، ومنها الحرية، والمساواة في الفرص وأمام القانون، وحرية التفكير والتعبير والتدبير، علاوة على تصاعد النزوع إلى «الديمقراطية التشاركية»، ودرجة اهتمام وانشغال، تنامت في ذهنية الغربيين ووجدانهم بما يجري في العالم، مع «ثورة الاتصالات» التي حولت كوكب الأرض إلى غرفة صغيرة، خصوصاً مع وسائل التواصل الاجتماعي.
جاء هذا في ظل رؤى فكرية وفلسفية.. تدعو إلى مراجعة الكثير من المسلَّمات؛ ومنها «معاداة السامية»، واستمرار إسرائيل دولة عرقية ودينية، والصورة النمطية لدى الغرب عن العرب، التي سكنت الأدبيات الاستشراقية، ومناهج التعليم، والمواد التي يقدمها الإعلام، فضلاً عن انحياز الساسة الغربيين لإسرائيل بشكل صارخ، وبارح وجارح. من بين هذه الرؤى بالطبع.. ما تخص اليهود أنفسهم، تبناها تيار «ما بعد الصهيونية».. ولا سيما ما كتبه «المؤرخون الجدد» و«علماء الاجتماع الانتقاديون»، وبعض المنظمات اليهودية التي ترفض قيام دولة لليهود.. لأسباب دينية وسياسية، مثل «ناطوري كارتا» أو «حراس المدينة».
لكل هذا، رأينا انفعال الناس في الغرب مع الحق الفلسطيني، ورفض كثيرين منهم للمواقف التي اتخذتها أغلب السلطات الرسمية الأوروبية والأمريكية، التي وصفت الإبادة، التي يقوم بها الجيش الإسرائيلي.. بأنها «دفاع عن النفس»، ورأت أن إمداد تل أبيب بالسلاح والمال، والدعم الدبلوماسي والخطاب المؤيد.. ضرورة تتماشى مع النظر إلى الدولة العبرية.. باعتبارها رأس حربة للمشروع الاستعماري الغربي.
كان هذا الانفعال لافتاً – بل مُدهشاً – لأغلب الناس في العالم العربي، وفاض كثيرون في تبيان دوافعه، وإدراك مراميه، والتعويل عليه في قابل الأيام، كي يكون رافعة مهمة لنصرة القضية الفلسطينية، التي تحولت في الشهور التي أعقبت الاجتياح الإسرائيلي لقطاع غزة، من «قضية العرب المركزية».. إلى «قضية الغرب المركزية»، ولو بشكل نسبي وجزئي، يمكن أن يتدحرج إلى الأمام، ويكبر في قابل الأيام.
لكن الإعجاب بموقف الشارع الغربي هذا، لا يجب أن يكفي أبدًا مناصري الحق الفلسطيني – من العرب أو غيرهم، بل عليهم أن يحافظوا قدر الإمكان.. على وتيرة التعاطف قائمة، بلا انطفاء أو فتور، ويحولوها إلى قوة دفع للأمام، تجعل مواطني أوروبا.. والولايات المتحدة خاصة، يتفاعلون مع قضية فلسطين، ويبذلون الجهد في سبيل تحويل الموقف الرسمي الغربي لصالحها – ولو نسبياً، أو تدريجياً – فقد يكون في هذا.. جزء من تعويض الثمن الفادح الذي دفعه الفلسطينيون، لا سيما في قطاع غزة.. من قتل وإصابات وتدمير بيوت وتشريد، ومعاناة لا مثيل لها، والأكثر هو التهديد بتصفية القضية الفلسطينية.
***
أولاً ـ الغاية من الانفعال إلى التفاعل والفاعلية
ينظر بعض علماء النفس السياسي إلى الانفعال.. على أنه قوة مبهمة متسلطة ومدمرة، وأنه ضد العقلانية التي تجعلنا أحراراً، ويُعد موقفاً منفصلاً عن المعرفة، ولذا يجب على الإنسان أن يرسخ صيغة توافق، تجعله يسيطر على الانفعال ويحجمه، بما لا يعطل التفكير السليم. على الجانب الآخر يرفض بعضهم هذا الفصل الحاد.. بين الانفعال والتعقل، ويرون أن هذا لا يمكن أن يجري في الواقع، نظراً لاستحالته على طبيعة البشر.
كما أن الانفعال نفسه مطلوب في كثير من الأحيان، لأنه يخلق «الدافعية»، التي تقودنا إلى «الفعل» أو إنجاز أشياء صعبة مادية ومعنوية.. في سرعة واستقلالية. وعند هذا، فوجود الانفعال مهم جداً، شرط أن يتناغم مع العقل، الذي لا يمكنه – في الوقت نفسه – أن ينفصل عن جذوره الانفعالية؛ وهي مسألة برهنت عليها الأبحاث الجديدة في علم الأعصاب، وأكدت أن الانفعالات لها دور مهم في حل المعضلات الأخلاقية.
إن كثيراً من اللغات والثقافات تُقدِّر بواعث الانفعال.. الذي يُطلق عليه «الغضب»، عبر استخدام كلمات مختلفة تميز بين الغضب المبرَّر.. الذي ينطوي على رفض للإهانة والضيم والظلم، وحالة غضب غير مبررة.. مبعثها رفض الآخر، أو عدم التسامح مع أي سلوك عرضي أو خطأ ارتكبه، والذي يمكن أن يتصاعد.. فيدخل في أطوار الطيش والتهور والحماقة.
لكن الانفعال وحده لا يكفي لإحداث تغيير، أو اتخاذ موقف إيجابي، إنما من اللازم أن يتحول إلى «تفاعل»، أي سلوك إنساني.. فيه «تأثير تبادلي» على الأفعال، يقوم به الأفراد أو الجماعات، سواء في علاقة مباشرة، أي الوجه للوجه، أو بطريقة غير مباشرة، ففي التفاعل تصدر أفعال البشر كاستجابة لأفعال الآخرين، كما تصدر تحسباً لهذه الأفعال أو توقعاً لها. والتفاعل أمر له أهميته، إذ يقال لولا التفاعل.. ما أمكن إضفاء المعنى على الأحداث والأوضاع الاجتماعية.
وتبدو القضية الفلسطينية – الآن وليس غداً – في حاجة ماسة إلى إحداث هذا الانتقال.. من «الانفعال» إلى «التفاعل»، وصولاً إلى «الفاعلية». وهي مسألة لمسها د. عبدالوهاب المسيري – أبرز المختصين العرب في دراسة اليهود واليهودية والصهيونية وإسرائيل – حين اختتم كتاباً له عن «الأيديولوجية الصهيونية».. برفض الاكتفاء بالإدراك الأكاديمي أو العلمي المحايد لهذا الموضوع، والنظر إلى ذلك باعتباره إدراكاً كسولاً، يجتر ما قاله أو كتبه الآخرون.. دون قلق أو معاناة، ولذا لا يُترجم نفسه في برنامج عمل يتفق مع إمكانيات كل فرد، وكل قطاع، حسب موقعه من الظاهرة، إنما في شعارات ميتة، يسهل الإيمان بها، والدفاع المتشنج عنها، دون ممارستها.
لكن السؤال الذي يطرح نفسه في هذا المقام هو: كيف نصنع هذا «البرنامج» الذي يضمن تفاعلاً غربياً خلَّاقاً ودائماً مع الحق الفلسطيني؟ وما هي العقبات التي تقف حجر عثرة أمام تحقيق هذا؟ في المقابل ما هي المحفزات التي تساعد في إيجاده؟ وما هي الروافع التي يمكن الاتكاء عليها في هذه العملية المهمة؟ وأي قدر من التغيير يمكن أن تُحدثه في قابل السنين؟
***
ثانياً: العقبات.. حمولات الإرث التاريخي والمصالح الظاهرة
بات من المتعارف عليه أن أكثر العقبات التي تقف دون تحول الانفعال بالقضية الفلسطينية إلى تفاعل خلاق دائم.. هي الإرث الثقافي الغربي المزدوج حيال العرب والمسلمين من ناحية، وإزاء قيام إسرائيل من ناحية أخرى، إلى جانب موقف الإدارات الغربية ذاتها، وكلاهما عاملان قابلان للتفكيك والحلحلة والتغير، ولو ببطء.. في قابل الأيام.
وهناك أيضاً البعد الديني الذي وُلد في ركاب البروتستانتية؛ التي بدأ مؤسسها مارتن لوثر.. بنقد شديد للرؤية والموقف التاريخي لليهود من المسيحية، وانتهى إلى مصالحة بين الاثنين؛ لا سيما بعد ضم «العهد القديم»، ليصبح جزءاً أساسياً من اعتقاد الإنجيليين في الغرب، تُرجم بشكل بارز فيما تسمى «الإنجليكانية»، التي مثلت أرضية تقف عليها «المسيحية الصهيونية»، المؤمنة بنبوءات آخر الزمان، أو نهاية العالم، التي ترى أن عودة المسيح إلى الأرض، جالباً الخلاص، تأتي في ركاب انتصار مبدئي لليهود، يقوم على أكتاف «دولة إسرائيل». في ظل هذا، ينظر المحافظون المسيحيون إلى مصالح إسرائيل على أنها مهمة لاهوتياً.
مع ذلك، يبقى العامل الأكثر رسوخاً.. هو موقف اللوبي المناصر لإسرائيل في الولايات المتحدة وأوروبا، والذي باتت له مؤسسات قوية، وراكم خطاباً تلفيقياً، لكنه انطلى على شرائح عديدة من الشعوب الغربية، وصار ضمن تصورها العام التقليدي عن الصراع العربي-الإسرائيلي.
لقد استخدم الغرب أقنعة كثيرة.. لها ألوان وأشكال ومساحيق، ومخلفات وعلامات خادعة، وأزمنة ماضية، وتهاويم متباينة، وأساطير ضخمة، وهي مجرد غطاء لنزعة استعمارية لا تتوقف، وإن تغيرت أساليبها.. من الاعتماد على القوة العسكرية المفرطة، إلى الهيمنة على موارد دول العالم الثالث، وإلحاق كتلته السكانية.. لتصبح مجرد سوق استهلاكي لما ينتجه الغرب من سلع، أو اعتبار بعض مساحاته الجغرافية.. مجرد مجال حيوي للسياسة الغربية، ثم الإبقاء على الغلبة الثقافية عبر الفرانكفونية والإنجلوفانية.
ولا تقف هذه النزعة الاستعمارية.. عند اعتبار إسرائيل رأس حربة، أو كلب حراسة، أو دولة وظيفية، أو مفرزة أمامية للغرب في منطقة الشرق الأوسط فحسب، بل أيضاً هناك شيء ملموس من مطابقة أمريكا بين حق إسرائيل في أرض فلسطين، وبين ما استقرت عليه من حق الأوروبيين في الولايات المتحدة وأستراليا. وهذا موقف راسخ إلى حد كبير، حتى لو كان هناك من يرى وجود فجوة واضحة بين حق إسرائيل في الوجود، وحق إسرائيل في احتلال وطن أعداد كبيرة من الفلسطينيين، الذين لا يريدون أن يُحتلوا.
ويدرك اللوبي الإسرائيلي هذه الحمولات والخلفيات جيداً، ويجيرها لصالحه، لتستمر مجموعة مصالح قوية.. مؤلفة من يهود وأمميين معاً، هدفها المتعارف عليه؛ هو دفع قضية إسرائيل داخل الولايات المتحدة، والتأثير في السياسة الخارجية الأمريكية، من خلال وسائل.. يعتقد أصحابها أنها مفيدة للدولة اليهودية. وبمرور الوقت، أصبح هذا اللوبي.. إحدى أقوى جماعات المصالح في الولايات المتحدة، لذا فإن المرشحين إلى المناصب الإدارية العليا في البلاد، يصغون إلى رغباته بعناية، في وقت يخشاه الكتاب والباحثون والإعلاميون والساسة، إذ إن كل من ينتقده.. يُتهم بمعاداة السامية، فإن كان يهودياً يوصف بأنه «يهودي يكره نفسه»، أو شخص «متعاطف مع النازية».
فمع هذا اللوبي، يبقى دوماً هناك توزيع عالمي للمهام، بحيث يعمل القتلة العسكريون في إسرائيل. بينما القتلة الفعليون.. يعملون خارج الشقق الفخمة للمكاتب الرئيسية، التابعة لمؤتمر رؤساء المنظمات اليهودية الرئيسية. وهذا التوزيع بات من القوة بمكان، بحيث يتجاوز – في كثير من الأحيان – المصالح المباشرة للغرب، وهي مسألة يعبر عنها الأكاديميان الأمريكيان ميرشايمر ووالت في دراستهما لهذا اللوبي، قائلين:
«لا يمكن للاعتبارات الاستراتيجية والأخلاقية.. شرح مستوى الدعم الأمريكي الراهن لإسرائيل، أو تبريره، ولا يمكنها أن تفسر الطبيعة غير المشروطة.. إلى حد كبير، لهذا الدعم، أو استعداد أمريكا لممارسة سياستها الخارجية بوسائل تهدف إلى حماية إسرائيل، وأن التفسير الرئيسي لهذا الوضع الشاذ.. هو اللوبي الإسرائيلي».
وأخيراً، هناك عقبة تصنعها تصرفات الطرف الفلسطيني، ففضلًا عن الانقسام الحاصل بين القوى الفلسطينية، والذي بانت عيوبه جلية، حتى في ظل تعرض جزء من الفلسطينيين في قطاع غزة.. لـ«إبادة جماعية»، هناك أيضًا تدابير لم يجد الغرب صعوبة في تصنيفها – وفق إدراكه أو ميوله أو أهوائه أو مصالحه – على أنها «أعمال إرهابية»، متغافلًا عن حق المُحتل في مقاومة الاحتلال، ومتجاهلًا كذلك ما نص عليه القانون الدولي.. متمثلًا أكثر في اتفاقية «جنيف»، من إعطاء التنظيمات الفلسطينية المسلحة والمدنية على حد سواء.. حقها في النظر إليها على أنها مقاومة مشروعة.
لقد استغلت إسرائيل العمليات الفدائية الفلسطينية، لتصور نفسها على أنها تحارب «الإرهاب»، فوجدت الولايات المتحدة.. أنها في حاجة ماسة إلى إسرائيل، في ظل ما تصفها طوال الوقت بأنها «حملة ضد الإرهاب». والتي لا يمكن أن تكون منبتة الصلة عن التصور الأمريكي، الذي تبلورت ملامحه عقب انتهاء الحرب الباردة، من ضرورة وجود «عدو»، يبرر للإدارات الأمريكية أمام شعبها.. نزعتها إلى الهيمنة على العالم، وإذكاء دور المركب الصناعي-العسكري، في الحياة السياسية الأمريكية الداخلية.
( ونكمل في الجزء الثاني)
نقلاً عن «المصري اليوم»