عمار علي حسن
تناول الجزء الأول – في هذا التحليل – الأسس النظرية لأهمية الانفعال بقضية أو مسألة أو مبدأ ما، ثم كيفية تحويله إلى تفاعل خلَّاق، وفاعلية لا تُبقي التصورات والأفكار محلقة في الفراغ، إنما تساعدها على أن تحط على الأرض.. باحثة عن تحقق ووجود وتأثير. ثم العقبات التي تعترض هذا؛ ومنها الإرث الثقافي الغربي الذي يدفع إلى التحيز لصالح إسرائيل، وضد العرب.
ثالثًا: المحفزات.. الفرص السانحة للتغيير
لا تخرج المحفزات – التي تساعد من يرغب في تحويل الانفعال بالقضية الفلسطينية.. إلى تفاعل وفاعلية – عن وجود بيئة غربية مواتية الآن، ووجود اتجاه فكري وأكاديمي.. ينظر إلى إسرائيل باعتبارها عبئاً على السياسات الغربية، إلى جانب «النقد الذاتي».. الممتد في التاريخ للحركة الصهيونية على يد اليهود أنفسهم.
أ ـ البيئة الاجتماعية ـ السياسية الغربية: لم تولد هذه البيئة بين عشية وضحاها، إنما لها جذور في الثقافة الغربية، ضربها أولئك المدافعون عن السلام، والتي يمكن أن نجد أمثلة ناصعة لها في كتاب الفيلسوف الألماني الشهير عمانويل كانط «مشروع السلام الدائم»، الذي رأى النور عام 1795، ووضع فيه خطة خلاص للبشرية.. تقوم على رفض الحروب، ووضع الخطط والتصورات التي تحول دون اندلاعها. وفي ثلاثينيات القرن العشرين ألفت السويدية آنا ت. نيلسون.. كتاباً تناولت فيه الحركات الشعبية التي قامت في أوروبا والولايات المتحدة، لخدمة قضية السلام العالمي.
وإلى جانب هذه التصورات الطوباوية – التي لم تحُل دون اندلاع الحروب – هناك التصورات الإجرائية، أو العملية.. التي ظهرت عقب حدث 11 سبتمبر 2001.. ضد الولايات المتحدة، والذي نسب خطاب إلى منفذيه المعلنين؛ يربط بين استهداف برجي مبنى التجارة العالمي في نيويورك، وبين الدعم الأمريكي اللامحدود لإسرائيل. من بين هذه التصورات ألتقط اثنين، الأول: هو ما أورده ستيفن والت وجون ميرشايمر، والثاني ما قدمه جورج فريدمان.
وينطلق التصور الأول من تبيان دور إسرائيل في إيذاء أمريكا، ويعزوه إلى عدة أسباب، هي:
- أذكى العداء لأمريكا في العالمين العربي والإسلامي، وجعل جهودها الرامية إلى إصلاح أنظمة الحكم فيهما تتعثر.
- قوّض صورة أمريكا في أنحاء العالم كله، فدعم إسرائيل في ظل انتهاكها لحقوق الإنسان، واحتفاظها بسلاح نووي، جعل واشنطن تظهر بمظهر المنافق، أو مزدوج السياسات في العالم برمته.
- إطالة أمد الصراع الفلسطيني-الإسرائيلي، إذ تصرفت الحكومة الإسرائيلية دوماً.. على أن ظهرها محمي، وهي تتوسع في الاستيطان، وتعتدي على جيرانها، وتجهض فرص السلام معهم.
- أعطى الموقف الأمريكي هذا المتشددين الإسلاميين.. فرصة لتجنيد أتباع لتنظيماتهم وجماعاتهم، ما عزز الراديكالية الإسلامية.
ترتيباً على هذا، يقول ميرشايمر ووالت: «إذا كان دعم الولايات المتحدة لإسرائيل.. يبرر العداء لأمريكا في الشرق الأوسط، ومصدراً للتوتر مع حلفاء استراتيجيين رئيسيين. وإذا كان للمجموعات والأفراد الموالين لإسرائيل.. تأثير كبير في السياسة الخارجية الأمريكية في هذه المنطقة الحيوية من العالم، فمن المهم عندها إثارة المسألة جهارة، وتشجيع النقاش العام لسياسة اللوبي ووقعها».
ويقر الباحثان بأن هناك ما سهل طرح هذه المسألة للنقاش، مثل: حرب إسرائيل على لبنان في صيف 2006، وتوعك أمريكا – بل نكبتها – في العراق، وما تعرَّض له جيمي كارتر من هجوم.. إثر إصداره كتاب «فلسطين.. السلام وليس الفصل العنصري»، والحرب الكلامية المستعرة بين الولايات المتحدة وإيران، ومساعي تلطيخ سمعة منتقدي اللوبي الإسرائيلي في أمريكا، خصوصاً على يد المسيحيين الصهاينة. فهذا كله، جعل من الضروري طرح السؤال: هل تعمل هذه الجماعات لمصلحة إسرائيل أم أمريكا؟
إن كل مبررات الدفاع عن إسرائيل؛ إما بوصفها تشارك الأمريكيين قيمهم، أو تساهم معهم في «الحرب على الإرهاب»، أو هي ورقة استراتيجية للسياسات الأمريكية، لا تصمد أمام التمحيص المنصف، أو أمام حجة من يرون أن إسرائيل.. باتت تشكل عبئاً سياسياً وأخلاقياً، بل وأمنياً، على الولايات المتحدة. ليس هذا فحسب، بل يرى الباحثان أن أمن إسرائيل.. ليس ذا أهمية استراتيجية بالنسبة لأمريكا، بل إنه لا سلامة لأراضي أمريكا، ولا قوتها العسكرية، ولا ازدهارها الاقتصادي، ولا قيمها السياسية الأساسية، في ظل دعمها الواسع لإسرائيل.
ويشاطرهما جورج فريدمان هذا الرأي، فيرى أن الولايات المتحدة لا تواجه علاقة دولة أكثر تعقيداً.. من العلاقة التي تحافظ عليها مع إسرائيل، بل ليست هناك علاقة.. مفهومة بشكل أكثر سوءاً منها. ثم يصفها بأنها علاقة تسمم العلاقات الأمريكية-الإسلامية، وتعقد الحروب في الشرق الأوسط. ويبني فريدمان رؤيته تلك، على أنه عقب انتهاء الحرب الباردة، قلَّ ما تحصل عليه الولايات المتحدة من العلاقة مع إسرائيل، بينما ازدادت التكاليف، لكنه – في النهاية – يرى أن هذه المعادلة.. لا تدعو إلى قطع العلاقات مع إسرائيل، بل تدعو إلى إعادة معايرة على أساس من الواقع الحالي.
لهذا، نما تيار فكري في الولايات المتحدة، يرى أنه.. على واشنطن معاملة إسرائيل كدولة عادية، ما يعني الكف عن التظاهر بأن مصالح أمريكا وإسرائيل متطابقة، أو التصرف وكأن إسرائيل تستحق دعماً أمريكياً راسخاً ومستمراً، بغض النظر عما تفعله. وإذا كان من الممكن أن تحصل إسرائيل على هذا الدعم عن تبني سياسات.. مرغوب فيها بالنسبة لأمريكا، فإن الأخيرة عليها أن تُسمع تل أبيب.. اعتراضها على سياستها غير الطيبة، شأنها شأن الدول الأخرى. وهنا يقول والت وميرشايمر – أيضاً، وبحسم – «على الولايات المتحدة أن تفطم إسرائيل تدريجياً.. عن المساعدة الاقتصادية والعسكرية التي تتوفر لها حالياً».
في ركاب هذا ورحابه، ظهرت قطاعات كثيرة من اليسار الجديد في الغرب.. تعادي إسرائيل، بمن فيهم عدد كبير من الشباب اليهودي، الساخط على قيم المجتمع الرأسمالي الاستهلاكي، الذي تمثله الدولة الصهيونية في العالم الثالث. ورغم سقوط الراعي الأول للشيوعية – وهو الاتحاد السوفيتي – فإن اليسار (بمعنى السعي وراء العدل، ونقد النزوع الاستعماري والاستهلاكي والعنصرية اليمينية)، لم يغب يوماً عن المجتمعات الأوروبية، بل إنه راح يكسب أرضاً على الدوام.. من الناحية الفكرية، ثم من زاوية الوجود الاجتماعي.
كما أن الأفكار التي يتبناها الملحدون واللادينيون.. لا تلتزم بالوعد التوراتي لليهود، ولا يشغلها التلازم بين العهدين القديم والجديد، الذي ولدت في ركابه «المسيحية الصهيونية»، وبات عليها مساندة إسرائيل.. من منطلق عقائدي. بل على العكس من ذلك، مال هؤلاء – في ظل النزوع الإنساني في دنيويته وراهنيته – إلى مقت كل نصوص أو تأويلات أو تفسيرات أو سياقات دينية.. من شأنها إذكاء العنصرية والكراهية.
كانت هذه التصورات تسري على مهل.. في أوصال المجتمعات الغربية، حتى جاء «طوفان الأقصى».. ليفجر بعض ينابيعها المطمورة، ويطلق الألسنة الخائفة والمترددة.. في رؤوس انشغل بعضها بأسئلة تمس جوهر القضية الفلسطينية، لتأتي الإجابات فيما بعد، كي تمثل تحولاً ملموساً في نظر الشعوب الغربية إلى «الصراع»، الذي لم يكن في حقيقته.. سوى نزال طويل بين «جلاد» و«ضحية».
هنا، تشير الكثير من استطلاعات الرأي – التي أًجريت في الغرب – إلى مقدار التحول الذي طرأ على الرأي العام في الغرب حيال الحرب على غزة، إن قارنا النسب التي أظهرتها في الأيام الأولى، حين كانت الشعوب الغربية خاضعة للرواية أو السردية الإسرائيلية.. التي أًطلقت في الفضاء الإعلامي الدولي، حول مزاعم اغتصاب النساء، وقطع رؤوس الأطفال، وحرق الجثث، التي تبنتها الإدارات الغربية أيضاً، ونطق بها الرئيس الأمريكي جون بايدن نفسه، قبل أن يعود ويعتذر عما بدر منه في تسرع ورعونة.
وقد بينت استطلاعات رأي عدة.. هذا التحول، وأكدت أيضاً أن حجم تأييد إسرائيل بين المراهقين والشباب في الغرب.. أقل كثيراً منه لدى كبار السن، مثل استطلاع هارفارد / هاريس Harvard Caps Harris poll، الذي يصدره مركز جامعة هارفارد للدراسات السياسية الأميركية ومؤسسة Harris Insights and Analytics شهرياً.. حول موقف الرأي العام الأمريكي حيال القضايا العامة، واستطلاع صحيفتا ديلي ميل ونيويورك تايمز، واستطلاع شركة يوجوف، وكذلك استطلاعان أجريا في كندا لمؤسسة ومؤسسة أنجوس ريد، وأيضاً استطلاعات رأي بريطانية، وأخرى متفرقة أجرتها مؤسسة «جينيريشن لاب» وجامعة كوينيبياك الأمريكية ومنتدى التايمز للمراهقين.
إن هذا التفاوت، مرده إلى اختلاف «الذاكرة الجيلية» بين الغربيين حيال إسرائيل، فجيل «زد» (أولئك الذين ولدوا بين عام 1997 وعام 2012) أقل ميلاً للتفاعل مع الرواية الإسرائيلية.. حول «الحق في العودة»، و«التعويض عن الاضطهاد»، و«معاداة السامية»، وأكثر تعرضاً لوسائل التواصل الاجتماعي.. التي نقلت الكثير من الصور والمقاطع المتلفزة والآراء.. حول «الإبادة الجماعية» لأهل غزة، التي وصل الانشغال بها إلى حد أن صارت «فلسطين قضية الغرب الأولى» في شهور الحرب، وتعمق التفاعل معها.. في ظل حزمة توجهات مختلفة، تتسق مع تبني «المواقف العادلة»، وتنظر بعين ناقدة.. للروايات الرسمية التقليدية حول القضية الفلسطينية، وتميل إلى وجهة يسارية، تميل إلى النفور من النزوع الاستعماري للحالة الإسرائيلية، وتكتوي بنار العنصرية المتصاعدة في الغرب، ولا تحبذ تكرارها ضد الشعب الفلسطيني، لاسيما أن فصلاً من هذه العنصرية بين البيض والسود، وقع قبل شهور من «طوفان الأقصى». من هنا أصبحت سردية الفلسطيني الضعيف – المُقاوِم للقوة الإسرائيلية الاستعمارية والغاشمة – أكثر رواجاً وتشويقاً وتصديقاً، لاسيما بعد تفاعل شباب من اليهود الغربيين أنفسهم معها.
ولم يكن موقف الشباب الغربي هذا.. وليد الحرب الأخيرة فقط، بل كان قد أخذ قوة دفع – بدرجة ما – خلال العدوان الإسرائيلي على غزة عام 2021، الذي صاحبته حملات على مختلف وسائل الإعلام الاجتماعي، لمناصرة القضية الفلسطينية، حيث لم يؤت على ذكر إسرائيل.. إلا ورافقتها مصطلحات الفصل العنصري Apartheid، والاستعمار الاستيطاني Settler Colonization، بحيث أصبحت – تدريجياً وببطء – فكرة «إسرائيل دولة الاحتلال» تعوض نظرية «إسرائيل الضحية».. في الذهن الغربي.
ورأينا الجامعات الأمريكية تنتفض لتأييد قضية فلسطين، بل تتسع انتفاضتها نصرة للحرية في العموم. فالقمع الذي يقابل به كل من يعترض على سياسات إسرائيل.. أتى بنتائج عكسية، بل فتح أذهان حتى الطلاب اللامبالين أو المحايدين أو غير المشغولين بالسياسة وتصاريفها: لماذا في بلد حر يُمنع الناس من حرية الكلام في قضية ما؟
إن الطلاب الغاضبين – في كثير من هذه الجامعات – كانوا يزاوجون بين حريتهم وحرية الشعب الفلسطيني، وبين أمنهم وأمن هذا الشعب. فهم في الوقت الذي يرفضون «الإبادة الجماعية» لأهل غزة، وفق ما انتهت إليه محكمة العدل الدولية، ويرفضون استثمار الولايات المتحدة في إٍسرائيل، خصوصاً في الصناعات العسكرية، يطالبون بالإفراج عن الطلاب المعتقلين، وينادون بالامتثال للدستور الأمريكي الذي يقر الحرية في التعبير.. دون مواربة، ويتعجبون من اتهامهم بـ «معاداة السامية».. لمجرد أنهم يرفعون أصواتهم ضد القتل والتدمير.
هكذا أتاحت القضية الفلسطينية للطلاب الأمريكيين – وزملائهم في بلدان غربية عدة – أن يضعوا حريتهم النظرية محل اختبار حقيقي في الواقع المعيش، ويضعوا الافتراض الذي سبق أن طرحه ميرشايمر ووالت، عن تحول إسرائيل إلى عبء على الولايات المتحدة.. محل تفكير. بل يمتد هذا الاختبار إلى ما يخص حالة الديمقراطية في المجتمع الأمريكي نفسه، ومدى صلاحية بعض الأفكار الكبرى للتطبيق الآن.
إن هذا يعيد إلى الأذهان.. ما سبق أن جرى في فرنسا، حين هتف الطلاب الغاضبون في المظاهرات – التي اجتاحت البلاد في شهري مايو ويونيو من عام 1968 – «فلتسقط البنيوية»، جنباً إلى جنب مع شعار «يسقط ديجول»؛ باعتبار البنيوية سجناً من اللغة، جدرانه من الأنساق والأنظمة، يجعل الإنسان غريباً أو مغترباً بين هذه الجدران أو التحكمات.
رحل ديجول بالفعل، وخلع كثير من البنيويين أرديتهم، وتحطم النسق المنغلق التسلطي، المنطوي على مركز ثابت.. كالعلة الأولى، لتطل برأسها مناهج ونظريات واقترابات أخرى. وعلى المنوال نفسه، يمكن القول إن ما فعله طلاب الجامعات في الولايات المتحدة، ليس هذا بالقليل، فكثير من التغيرات التي يشهدها الرأي العام، لاسيما في الدول الديمقراطية، يبدأ بطرح الأسئلة، واختبار صحة الافتراضات من عدمها. ومن ثم – وبمرور الوقت – سيكسر الشباب في الغرب.. القيود التي تكبل المواطن هناك حول إسرائيل، والتي تم فرضها عقوداً من الزمن، وتفهموها أو سكتوا عنها، أو لم يعنوا بها من قبل، ولم يفكروا يوماً في أن يضعوها محل اختبار جاد وحاسم.
لا يبدو الأمر سهلاً، وإلا ما كان أثار مخاوف رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، الذي وصف احتجاجات الطلاب الأمريكيين ضد إسرائيل بأنها.. «عمل مروع». وطالب – في كلمة مسجلة له – ببذل مزيد من الجهد.. للتصدي له، قائلاً: «هذا عمل غير معقول، ويتعين وقفه وإدانته على نحو لا لبس فيه»، فيما يقول أكاديميون يهود مؤيدون لإسرائيل، وأساتذة زائرون من إسرائيل نفسها.. إن الاحتجاجات حولت الجامعات إلى «بيئة معادية لهم، يشعرون فيها بالخطر».
تحدث نتنياهو أيضاً، عن تصاعد «معاداة السامية»، لكن اشتراك يهود في الاحتجاجات – من بينهم أعضاء في جماعة «الصوت اليهودي من أجل السلام» – يتخذ نقطة ارتكاز، للرد على هذا الاتهام، بل يجعل الطلاب يفكرون جادين في هذه المسألة، التي كانوا يسلمون بها في الماضي دون نقاش، ويمكن لقول نتنياهو أن يزيدهم إصراراً.. على مواصلة ما هم فيه.
إن هذا يمثل تحولاً مهماً، ينمو شيئاً فشيئاً، نازعاً عن إسرائيل الكثير من التعاطف معها.. الذي استمر عقوداً، وكاشفاً عن وجهها الحقيقي.. الذي كان الإعلام ومؤسسات التعليم في الغرب تخفيه طويلاً، تحت طبقة سميكة من مساحيق الدعاية والتلوين السياسي الفج.
ب ـ النزعة النقدية لدى اليهود: تعيش الصهيونية أزمة متشابكة، تتداخل فيها أسباب مع الأخرى، وكذلك الأسباب والنتائج، والأيديولوجية والواقع، وتدور حول أربعة أشياء: إشكالية الديني والعلماني، وأزمة الهوية، ومشكلة التسكين أو الاستيطان، وتفكك الإطار الفكري بسبب النزعات الإستهلاكية والعلمنة والأمركة والعولمة والخصخصة. وقادت هذه الأزمة، في خاتمة المطاف، وفي ذروة نضجها، إلى ظهور تيار ما بعد الصهيونية، Post-Zionism.
ورغم أن أطروحات ما بعد الصهيونية.. لم تقدم تصوراً متماسكاً إلى الآن، ولم تنج من «التناقض الثقافي» أو «الفصام» أحياناً، أو تصنع قطيعة مع أفكار الصهيونية وتاريخيها، أو تنفذ إلى السياسات الإسرائيلية بشكل فعال، فإنها استندت إلى رؤية مختلفة نسبياً عن الصهيونية، وكشفت عن إفلاسها أو عجزها عن المحافظة على حيويتها، أو حلها لإشكالية التلفيق بين عناصر تزعم الجمع بينها مثل التقليدية والخصوصية القومية والعالمية والتحديث والدين والعلمانية.
ومع أن بعض المنتمين إلى هذه الفكرة – التي يندرج تحتها من يوصفون أحياناً بأنهم «المنفيون وسط اليهود» – يتراجعون عن مواقفهم المعلنة، وبعض تفكيرهم تباعاً، فإن رد الفعل الإسرائيلي القوي عليها يؤكد أهميتها، وأنها قضية ليست تافهة. إذ مارست السلطات الإسرائيلية كل ما تستطيعه من قيود مادية، وتشويه معنوي، في سبيل حصار تيار «ما بعد الصهيونية» – على قلة المنتمين إليه – لكن الجدل الذي أثارته الفكرة انتقل إلى اليهود في الخارج، بما في ذلك المنظمات أو اللوبيات الموالية لإسرائيل، وكان جزءاً من حجيته في التأثير.. هو تفاعله مع بعض أطروحات الليبرالية حول التقليل من الدور الذي تلعبه الإثنيات في تحليل الدولة القومية في الديمقراطيات الغربية.
إن ما بعد الصهيونية – التي لا يمكن فصلها عن الثورة المعرفية التي شهدتها العلوم الإنسانية في الغرب ورفضت الكثير من المسلمات حول التنوير والعقلانية والتقدم والرؤية التاريخية عن مركزية الأوروبية – تحاول أن تتجاوز أخطاء الماضي، وتصحح الحاضر، وفق عدة أمور:
1 ـ إلغاء التمييز داخل إسرائيل على أساس العرق والدين والجنس واللغة والطائفة، وإعلاء مبدأ المواطنة، أو المساواة السياسية والاجتماعية بين جميع سكانها.
2 ـ جعل مصالح الفرد وحريته هي الأساس – عبر مسار ليبرالي – بعيداً عن فاشية الصهيونية وشوفينيتها.
3 ـ تعزيز المدنية، التي ترفض عسكرة المجتمع الإسرائيلي، والإقرار بمجتمع متعدد الثقافات.
4 ـ الإقرار بالتعددية.. التي تعني تفكيك الثنائيات الصهيونية التقليدية، التي تجمع قسراً بين يهودية الدولة وديمقراطيتها، وتقسم المجتمع على أساس اليهودي وغير اليهودي، مع الادعاء بفرادة اليهود أو تميزهم.
5 ـ بناء المستقبل على أساس يتجاوز رؤى الصهيونية ومقولاتها وممارساتها.
6 ـ رفض تجاهل حقيقة وجود الفلسطينيين وهويتهم، وعدم إنكار حقوقهم الوطنية والقومية، والاعتراف بمسؤولية إسرائيل عن المأساة الفلسطينية، والإقرار بمشكلة اللاجئين الفلسطينيين، وإدراك كل ما ترتب على رفض إسرائيل للسلام الحقيقي من مشكلات، وعدم تجاهل تاريخية الصراع بين الطرفين، وطرح حقائق فكرية جديدة في مواجهة نزعة حنين اليهود إلى ماضيهم.
ويقع على جانب هذا التيار.. من يسمون بالمؤرخين الجدد وعلماء الاجتماع الانتقاديين. فقد شهدت إسرائيل مجموعة من المؤرخين الإسرائيليين، سبقوا زمنياً تيار «ما بعد الصهيونية»، وحولوا النقاش والبحث من الحديث عن إنجازات الحركة الصهيونية، إلى الحديث عن ثمن هذه الإنجازات، وعن إخفاقات هذه الحركة خصوصاً مع العالم العربي، وموقفها من الهولوكست، واستيعاب المهاجرين اليهود من البلدان العربية، وعن علاقتها مع الأقليات والمجموعات الأخرى المهمشة اجتماعياً.
لقد دعا المؤرخون الجدد إلى إعادة النظر في المسلمات التاريخية والأساطير، التي اتكأت عليها الرواية الصهيونية والإسرائيلية حول ما جرى في عامي 1947 و1948، بما فتح الباب أمام الرواية الفلسطينية حول النكبة. باعتبارها واحدة من عملية تطهير عرقي للسكان الفلسطينيين الأصليين، وإحلال مهاجرين يهود مكانهم على أراضيهم.
واعتبر هؤلاء.. أن الصهونية جزء أساسي من الحركة الاستعمارية الحديثة، التي أرادت إيجاد إسرائيل كرأس حربة لمشروعها في منطقة الشرق الأوسط، واتهموا نظراءهم من مؤرخي الصهيونية.. بصناعة بطولات زائفة لقادة عسكريين إسرائيليين، رغم ارتكابهم فظائع ضد الفلسطينيين.. في شتى أنحاء الدولة العبرية.
بنى المؤرخون الجدد، وعلى رأسهم بيني موريس وآفي شلايم وإيلان بابي وتوم سيغف، روايتهم على ما ورد في وثائق ومستندات محفوظة في أرشيف إسرائيل نفسها، وكذلك أرشيف الأمم المتحدة وبريطانيا وغيرهما. وأعطى هذا التوثيق مقولاتهم وتصوراتهم.. حجية عالية، ومصداقية ظاهرة.
ورغم أن بعضهم قد تراجع عن أفكاره.. إثر الضغوط الشديدة التي تعرضوا لها من الإعلام الموالي لإسرائيل، ومن جامعات ومعاهد إسرائيلية؛ ضيقت الخناق عليهم، واعتبرت ما قدموه طعنة في ظهر الرواية الإسرائيلية الرسمية، فإن رؤيتهم لم تلبث أن أطلقت حركة مراجعة نسبية.. لباحثين ومؤرخين غربيين، طرحوا دراسات مختلفة حول النكبة.
وهناك أيضا تيار «ما بعد اليهودية» – الذي ظهر منذ سبعينيات القرن العشرين – ويقدم رؤية نقدية لتعامل الدولة الإسرائيلية مع الأقليات؛ مثل العرب واليهود الشرقيين (السفارديم). وهو يحاول تبديل «اليهودي الوطني» ضيق الأفق، بـ«الرجل العالمي» المستنير، الذي ينظر إلى الدولة اليهودية.. باعتبارها ظاهرة قديمة ومكروهة وتخريبية، بمعاداتها العلمانية، وينقد الأطروحات الدينية الجامدة، التي تتعامل مع العلمانيين – في سعيهم إلى بناء الدولة – على أنهم مجرد «حمار».. يركبه المتدنيون ليصلوا إلى هدفهم الأسمى، وهو الاستيلاء على الدولة، وتجهيزها لمجيء المسيح.
وفي هذا المقام، يقول يوسي ميلمان: «يتجلى أمامنا بون شاسع.. بين دولة اليهود كما أرادوها بالأمس، وبين حالها اليوم… دولة اليهود التي تخيلها هرتزل، هي دولة العامة والحرية والتحرر من الإكليروسية، وفيها ينفصل الدين تماماً عن الدولة. أما واقع إسرائيل الحديثة فهو، برغم هذا، واقع مختلف تماماً»، إذ تحولت إسرائيل إلى «دولة دينية» لا شبيه لها في عالمنا المعاصر.
في ظل هذا، حدث تحول اجتماعي ملموس.. في إسرائيل نفسها، إذ ظهر جيل يسميه يوسي ميلمان «الإسرائيليون الجدد»، ويصفه بأنه جيل «فقد صبره، وتحلى بالنزعة إلى المتعة، وليس عسيراً تعريفه في إطار الطبقة الوسطى الملهمة بالقناعات السريعة، والعطاء القاصر، وبالنتائج الفورية، مع الرغبة نحو حلول سحرية وسهلة.. لكل الأعباء السياسة والاقتصادية والاجتماعية. لقد سلخوا من تفكيرهم مبدأ التضحية الفردية، وأخذوا يشككون الآن في تضحيات الإسرائيليين من قبل. إنهم على طرفي نقيض ليس مع مؤسسي الحركة الصهيونية الأوائل وأتباعهم، بل مع الأجيال التالية الأقل مثالية من هؤلاء الأسلاف».
وهناك من يذهب إلى تصور أعمق في نقد إسرائيل، إذ يراها محض إنشاء ينتهك العقيدة اليهودية نفسها، وهنا تبرز حركة «ناطوري كارتا»، وهي حركة دينية يهودية مناهضة للصهيونية، تستمد اسمها من اللغة الآرامية، وتعني بالعبرية «حارس المدينة»، وتأسست في القدس على يد الحاخام أمرام بلاو. ولا تعترف هذه الحركة بدولة إسرائيل على الأرض الفلسطينية، وترفض أن تكون إقامة مثل هذه الدولة على حساب شعب آخر، أو دون إذن من الرب، الذي عاقب بني إسرائيل بالتشتت بين الأمم، والتبعية لبلدان عدة.
بدأت هذه الحركة.. كجزء من من حزب «أغودات يسرائيل»، الذي أُنشئ في بداية القرن العشرين لمواجهة الصهيونية، ودعم هجرة اليهود إلى فلسطين.. مقدماً بذلك تنازلات للحركة الصهيونية، لكنه رفض إقامة دولة يهودية، وانشق جزء من هذا الحزب عام 1935، اعتراضاً على الخضوع للصهيونية، وأنشأ المنشقون «ناطوري كارتا»، التي شاع اسمها في العالم ابتداء من عام 1938، واشتهرت بإنكار صلاحية إسرائيل كدولة قومية لليهود، ورفض اعتبار الصهيونية.. الوكيل الذي يمثل مصالحهم في العالم، أو أن إسرائيل هي مقدمة للخلاص اليهودي. ولذا ترفع الحركة – التي حافظت على طابعها الديني – في مختلف أنشطتها – شعار «اليهودية لا تساوي الصهيونية»، وتجرد أي يهودي مناصر لها من يهوديته.
لم تكتف الحركة بهذا، فغداة إعلان قيام إسرائيل، أرسلت إلى الأمم المتحدة، مسجلة رفضها هذه الخطوة، ودعت إلى تدويل القدس، لكي لا تخضع لحكم إسرائيل، ووقفت إلى جانب الشعب الفلسطيني في مواجهة الممارسات الإسرائيلية البشعة، واصفة إياها بأنها تخالف الشريعة اليهودية، ولذا يتعرض أعضاؤها لملاحقات مستمرة من السلطات الإسرائيلية، لكن عشرات الآلاف منها يعيشون في الولايات المتحدة، خاصة في نيويورك، ويتيح لهم هذا حرية حركة، في إنتاج خطابات وممارسات مناهضة لدولة إسرائيل.
تبني الحركة – التي تعتمد على التوراة، خصوصاً في إنتاج خطابها وتحديد مواقفها – فكرتها على روايات قديمة، تعزو طرد اليهود من أرض إسرائيل.. إلى عقاب إلهي بسبب خطاياهم. وعلى ما ورد في التلمود.. بأن أي محاولة لاسترداد أرض إسرائيل بالقوة، هي مخالفة للإرادة الإلهية. وأن عودة إسرائيل لا تكون إلا بقدوم المسيح. وتؤمن بالفداء الإلهي وسلبية الإنسان، وضرورة أن يكون وكلاء هذا الفداء.. من الأتقياء. وأن الله وحده سيفدي إسرائيل بطريقة خارقة للطبيعة، وأن الدولة إن قامت.. ستكون دينية خالصة، وليست بيد بشرية، تسعى إلى استعجال نزول المسيح، أو تزعم تطبيق الديمقراطية.
وقد حارب بلاو الصهيونية منذ شبابه، ونجح في الحصول على قرار فصل جماعة اليهود الأرثوذكس عن أحياء الصهاينة.. من حكومة الانتداب البريطانية. وحين أعلن عن قيام إسرائيل، قاد مظاهرات مع الآلاف من اليهود الأرثوذكس.. رفضا لقيامها، ثم رفض الخضوع لقوانين حكوماتها. واتخذت الحركة خطوة لافتة.. على يد الحاخام موشيه هيرش – حين قبل تولي منصب وزير الشؤون اليهودية في حكومة ياسر عرفات عام 1995 – معتبرا إياه رئيساً لجميع سكان أرض فلسطين، ومن ضمنهم اليهود.
أما الحاخام مئير هيرش – الذي تولى قيادة الحركة عام 2010 – فحرص على تنظيم مظاهرات دورية ضد الحكومة الإسرائيلية، ورفع أعلام فلسطين تضامناً مع أهلها الأصليين، ومد يد العون إلى فلسطيني القدس الشرقية.
واستغلت الحركة موقعها.. كمراقب في الأمم المتحدة، لتسهم بدور فعال أثناء مناقشة القرار رقم 3379 لعام 1975، في إعلان الصهيونية شكلاً من أشكال العنصرية. وسجلت موقفها في مؤتمر مدريد للسلام.. بأن «الشعب اليهودي مكلف بالقسم الإلهي.. بعدم السعي للاستقلال والتخلص من نير المنفى الذي فُرض عليه. وأن الصهاينة تمردوا على هذا المرسوم الإلهي.. باحتلالهم فلسطين وإقامة دولتهم عليها، وبهذا الاحتلال استحقوا العقاب الإلهي المنصوص عليه في التلمود»، كما شاركت الحركة في مؤتمر مراجعة الهولوكوست، الذي استضافته إيران في ديسمبر 2006. وشاركت في قافلة «تحيا فلسطين» الثانية في منتصف عام 2009، وقابل أربعة أعضاء منها حركة «حماس» وقادتها برئاسة إسماعيل هنية. ثم شارك عدد من قادتها في «المسيرة العالمية إلى القدس» عام 2012، وحضر آخرون من قادتها مؤتمراً في لبنان حول الصراع الإسرائيلي-الفلسطيني في العام نفسه. بل شاركت الحركة في مؤتمر الأزهر العالمي لنصرة القدس عام 2018.
أما على المستوى السياسي، فظهرت في إسرائيل جماعة يسارية تسمى «حركة السلام الآن»، تأسست عام 1977، وأطلق أعضاؤها على أنفسهم «الصهاينة العقلاء»، الذين إن كانوا يعلنون ولاءهم للدولة، فإنهم يرفضون أطروحات اليمين الديني المتطرف حولها. ورغم أن الحركة لا ترفض العنف دفاعاً عن الدولة وأمنها، ولا تناهض المؤسسة الحاكمة، وترفض إقامة دولة فلسطينية، فإنها تطالب بالتخلي عن «أرض إسرائيل الكاملة»، وضرورة الاعتراف بحق الوجود القومي للفلسطينيين، وتؤيد تقليص المستعمرات، مقابل تخلي الفلسطينيين عن المقاومة، وحق العودة، وهذا ليس بالقليل. ورغم أن الحركة اتخذت موقفاً من «طوفان الأقصى» لا يختلف كثيراً عن اليمين المتطرف، فإن من المرجح أن تعود إلى خطابها النقدي، وموقفها المغاير، فيما بعد.
(نكمل في الجزء الثالث)
نقلاً عن «المصري اليوم»