عبدالله السناوي
يطرح سؤال «اليوم التالي» نفسه مجدداً، في أحوال وأجواء.. مختلفة عما كانت عليه قبل الإعلان عن اتفاق وقف إطلاق النار، وتبادل الأسرى والرهائن.انطوى الاحتفاء الشعبي الواسع والتلقائي – في شوارع غزة – على رسالة سياسية.. يصعب تجاهل آثارها وتداعياتها، أن إرادة المقاومة – تحت أسوأ حروب الإبادة والتجويع – أقوى من توحش القوة.
ثبت في الميدان.. أن هزيمة إسرائيل ممكنة. كان ذلك نوعاً من النصر.في الوقت نفسه، بدت الدولة العبرية.. كمن تنفس الصعداء أخيراً؛ أيّدت نسبة كبيرة من الرأي العام الإسرائيلي الاتفاق، رغم أنه ينص على تراجعات جوهرية، تنسف تماماً وعود رئيس وزرائها بنيامين نتنياهو..
بالنصر المطلق! بات مصيره – هو نفسه – معلقاً على حسابات وتوازنات، لا يمكنه التحكم فيها.لم ينجح في تحقيق أي من أهداف الحرب – التي امتدت لـ (15) شهراً – المعلنة وغير المعلنة؛ لا قوّض «حماس»، ولا نجح في استعادة الأسرى والرهائن.. بالعمل العسكري. لم يعد بوسعه أي حديث مرة أخرى.. عن إعادة احتلال غزة، وفرض حكم عسكري عليها.
كان ذلك نوعاً من الهزيمة. يكاد يستحيل أن يتراجع عن الاتفاق؛ حتى لو انسحبت أحزاب اليمين المتطرف من الائتلاف الحاكم، وانهارت حكومته، فالكلفة السياسية لا يمكن تحملها.. بالصدام المباشر مع الرئيس الأمريكي المنتخب دونالد ترامب، بأول أيامه في البيت الأبيض.إذا التزم بالاتفاق.. فهو في أزمة عميقة؛ قد تكلفه منصبه، وخضوعه للتحقيق.. عن مسؤوليته عما جرى في السابع من أكتوبر. وإذا نقضه – بذريعة أو أخرى – فإن إسرائيل كلها قد تدخل في أزمة وجودية، وصدامات محتملة..
على كل المستويات.ما الذي يمكن أن يحدث فعلاً في اليوم التالي؟ في مايو (2024)، قدّم الرئيس المنتهية ولايته جو بايدن.. مشروعاً لاتفاق، زعم أنه إسرائيلي. لكن «نتنياهو» لم يؤيده، أو يؤكد انتسابه إليه. لا يختلف مشروع بايدن في جوهره.. مع الاتفاق الذي تم إقراره.كان ذلك الاتفاق المجهض، جزءاً من تصور أوسع لليوم التالي.. من ترتيبات وإجراءات سياسية وأمنية، للسيطرة على القطاع بعد وقف إطلاق النار.
لا يوجد الآن مثل هذا التصور الواسع. لم يكن «نتنياهو» مستعداً لأي نقاش جدي.. عن أية ترتيبات، قبل اجتثاث «حماس»، وتحقيق كامل أهدافه من الحرب. ولم يُبدِ أدنى تقبل.. لإسناد أي دور أمني وسياسي للسلطة الفلسطينية في غزة.غاب عنه تماماً.. أي أفق سياسي؛ طالباً تمديد الحرب.. حتى لو أشعلت المنطقة كلها بالنيران؛ خشية لحظة الحساب على مسؤوليته.. عما جرى في السابع من أكتوبر.بالوقت نفسه، راهن على أهداف – شبه معلنة – كالتجهير القسري من غزة إلى سيناء، والاستيلاء على الغاز. أو إعادة رسم خرائط الشرق الأوسط.. لبناء نظام إقليمي جديد، تقوده إسرائيل. كل ذلك سقط تماماً.بتوصيف هزلي، أطلقه وزير الخارجية الأمريكي أنتوني بلينكن لنتائج الحرب، فإن إسرائيل حققت كل أهدافها الاستراتيجية!كان ذلك تعسفاً في قراءة المشهد، وتجاهلاً للمأساة الإنسانية.. التي استدعت غضباً غير مسبوق في جامعات النخبة الأمريكية.. منذ حرب فيتنام ستينيات القرن الماضي.
بأثر الهزيمة الأخلاقية التي لحقت بصورة إسرائيل، جرت ملاحقتها أمام محكمة العدل الدولية.. بتهمة الإبادة الجماعية، كما استصدرت المحكمة الجنائية الدولية مذكرتي توقيف.. بحق نتنياهو، ووزير دفاعه المُقال يوآف جالانت.أراد بلينكن أن يؤكد انحيازه شبه المطلق لإسرائيل، وأهدافها الاستراتيجية من الحرب. وأن يصور إدارة بايدن – بالوقت نفسه – كقوة سلام.. نجحت أخيراً – قبل مغادرة البيت الأبيض – في وضع حد لأكثر الحروب وحشية في التاريخ الحديث.
لماذا الآن؟ كان ذلك سؤالاً ملحاً.. عقب إعلان التوصل إلى الاتفاق. سُئل «بايدن» – بعد أن ألقى بياناً في مؤتمر بالبيت الأبيض – من ينبغي أن نشكره، أنت أم ترامب؟! أجاب، وهو يغادر: «هل هذه نكتة؟!».الحقيقة التي يعرفها العالم كله، أنه شارك في إغلاق الملف الدموي، الذي يستحق المثول بسببه أمام جهات العدالة الدولية، إذا كانت هناك عدالة في هذا العالم.
بدا «ترامب» حازماً وقوياً.. على عكس «بايدن»؛ الذي فعل لإسرائيل ما لم يفعله رئيس أمريكي آخر.. لمنع أي انهيار محتمل إثر السابع من أكتوبر. في نهاية المطاف، لم يجد مجرم الحرب «بايدن» من يشكره!
كان الهدف الرئيسي من المساعدات العسكرية الأمريكية – التي تدفقت بمعدلات غير مسبوقة على إسرائيل – تمكينها من الانتقام بأقوى قوة ردع ..حتى لا يرتفع رأس في فلسطين يدعو للمقاومة، أو يطالب بأية حقوق مشروعة.. في تقرير مصير شعبه. الفلسطينيون حاربوا أمريكا قبل إسرائيل. هذه هي الحقيقة الكبرى، التي ينبغي ألا تغيب في أي نظر لليوم التالي.عقيدة «بايدن».. تختلف عن عقيدة «ترامب».
الأول؛ يميل إلى العسكرة المفرطة، على ما حدث فعلاً في حربي أوكرانيا وغزة. والثاني، رجل صفقات، وسؤاله الرئيسي دوماً: ما الثمن؟توسيع الاتفاقيات الإبراهيمية، تحدٍّ أول على أجندة «ترامب». موضوع التحدي: مقابل ماذا؟ لا توجد أدنى إجابة قادرة على تلبية الحقائق الجديدة.. بعد السابع من أكتوبر.
العودة إلى صفقة القرن فشل مسبق، فجوهرها تلخيص القضية الفلسطينية.. في المساعدات الإنسانية، وإلغاء طابعها كقضية تحرر وطني، ثم إنه يعارض حل الدولتين. ما البديل؟ لا يقول شيئاً.
التحدي الثاني: ملف الاستيطان، وسيناريوهات فرض السيادة الإسرائيلية علي الضفة الغربية ماثلة، وهو تحدٍّ آخر.. يُفضي إلى انفجار مدوٍّ في أرجاء الأراضي الفلسطينية المحتلة.التحدي الثالث: العقدة الإيرانية، التي يصعب تجاوزها بالتهديدات العسكرية وحدها.
لن يذهب «ترامب» إلى الحرب معها، لكنه لن يحاول حلحلة الأزمة من جذورها.هذا هو السيناريو الأكثر ترجيحاً في اليوم التالي، ربما تميل إدارته.. إلى تخفيض التوتر في الشرق الأوسط، لكنها لا تمتلك أية خطة استراتيجية واضحة ومحكمة.التحدي الرابع: الوضع السياسي الداخلي الفلسطيني، أو مستقبل السلطة في اليوم التالي.. وسط أجواء محمومة، داخلها ضد إسناد أية أدوار لـ«حماس» في القطاع، ومطاردات لجماعات المقاومة.. في الضفة الغربية.
المعادلة يصعب تجاوزها بسهولة؛ السلطة فقدت شرعيتها، و«حماس» محاصرة.أخطر ما قد يحدث في اليوم التالي، أن تحصد إسرائيل – بالتخاذل العربي والانقسام الفلسطيني – ما لم تحصده بالحرب.
نقلاًعن «الشروق»