مصطفى كامل السيد
لا ينطوي توصيف اللحظة الراهنة في الوطن العربي.. بأنها نكبة ثالثة، ولا توصيف ما أعقب نكسة 1967.. بأنه نكبة ثانية، على أي مبالغة. ويكفي للتدليل على صحة ذلك.. تذكر حالة العرب، وأهداف الكيان الصهيوني وإنجازاته، وكذلك الموقف الدولي في كل من هذه اللحظات المفصلية في تاريخ العرب المعاصر.
كان هدف الحكومات العربية السبع.. التي خاضت الحرب العربية الإسرائيلية الأولى في مايو 1948، هو الحيلولة دون قيام دولة إسرائيل.. على ذلك الجزء من أراضي فلسطين، الذي منحه لها قرار التقسيم 181 – الذي أصدرته الجمعية العامة للأمم المتحدة في 1947 – وكان هدف الميليشيات المسلحة اليهودية.. هو وقف هذا العمل العسكري العربي. وانتهى الأمر بهزيمة الجيوش العربية، وقيام دولة إسرائيل.. ليس فقط على الأراضى التي منحها لها قرار التقسيم، ولكن بالاستيلاء على أرضٍ جديدة.. أثناء الحرب، وخلال الهدنة التى أعقبتها.
… قبلت الدول العربية المحيطة بفلسطين.. بالهدنة مع إسرائيل، ولكنها حافظت على مواقفها الرافضة لوجود إسرائيل وامتنعت عن الدخول في أي علاقات معها، بينما ضم الأردن الضفة الغربية إلى أراضيه، وأقامت الحكومة المصرية إدارة عسكرية في قطاع غزة.
جرت الحرب العربية الإسرائيلية الأولى.. في بداية الحرب الباردة، ومع أن الاتحاد السوفيتي كان الدولة الثانية التي اعترفت بإسرائيل.. بعد حكومة الولايات المتحدة، إلا أن تطورات الحرب الباردة بعد ذلك جعلت الاتحاد السوفيتي – منذ منتصف خمسينيات القرن الماضي – يقف مع الدول العربية ويساعد بعض المحيطة منها بإسرائيل بالسلاح.. تمكيناً لها من مواجهة خطر إسرائيل على حدودها. وبينما كان هدف الدول العربية الثلاث التي واجهت إسرائيل في 1967 ردعها (إسرائيل).. عن القيام بعمل عسكري ضد سوريا، إلا أن هذه الحرب العربية الإسرائيلية الثانية.. انتهت بفقدان الدول الثلاث أقساماً من أراضيها؛ باحتلال إسرائيل لشبه جزيرة سيناء في مصر، ومرتفعات الجولان في سوريا، وكل الضفة الغربية بما فيها القدس.. التي كانت كلها تحت الإدارة الأردنية.
• • •
تغيرت أهداف الدول العربية بعد هذه الهزيمة – التي سُميت بنكسة – فأصبحت تصفية آثار العدوان الإسرائيلي.. باستعادة الأراضي التي فقدتها في تلك الحرب، وهو ما كان يعني.. أنها تقبل إسرائيل في الحدود السابقة على تلك الحرب، وكان ذلك تنازلاً منها عن هدف استعادة كل فلسطين العربية.. كما كانت قبل هجرة اليهود الأوروبيين لها، وتأكد ذلك بقبول كل من مصر والأردن قرار مجلس الأمن 242 فى 1967؛ الذي دعا إلى جلاء إسرائيل عن أراضٍ (الأراضي) محتلة، وحق الدول في أن تعيش في سلام داخل حدود آمنة ومعترف بها، ومع استعادة كل من مصر وسوريا جانباً من الأراضي..التي احتلتها إسرائيل في سيناء ومرتفعات الجولان، بموجب اتفاقات وقف اشتباك وقعتها حكومتا البلدين في السنوات الثلاث التي أعقبت حرب أكتوبر 1973.
حدث ذلك في إطار الحرب الباردة، التي واصل فيها الاتحاد السوفيتي تأييد الدول العربية، وحق الشعب الفلسطيني في تقرير المصير. إلا أن هذه النكسة.. قد تحولت إلى نكبة؛ بتصور قيادة الرئيس السادات في مصر أن النزاع مع إسرائيل.. هو خلاف على الحدود، وأن جذوره نفسية أكثر منها واقعية؛ ولذلك يصبح السلام مع إسرائيل، والتطبيع الكامل للعلاقات معها.. هو السبيل للتغلب على هذه «العقدة النفسية»، ومن ثم ينفتح الباب أمام حل كل مشاكل إسرائيل مع العرب.. بمن فيهم الجانب الفلسطيني.
ومع أن هذا الطرح الساداتي لقي معارضة من معظم الدول العربية في 1979، إلا أنها انساقت بعد ذلك وراء هذا التصور.. لأسباب متعددة.
كانت منظمة التحرير الفلسطينية هي أول من سار على هذا الطريق في 1993، وتلاها الأردن في 1994، ثم انضمت لهذه المسيرة كل من دولة الإمارات والبحرين والسودان والمغرب في سنة 2020 خلال سنوات حكم دونالد ترامب، وبدأت دول عربية أخرى التمهيد لمشاركتها في هذه المسيرة؛ وخصوصاً المملكة العربية السعودية وقطر.
قبول هذا التصور لحقيقة الخلاف مع إسرائيل.. هو الذي دفع الحكومات العربية لتقليل دعمها للنضال الفلسطيني، بل وممارستها الضغوط على السلطة الفلسطينية، لتوقف أي مقاومة مسلحة لإسرائيل في الأراضى الفلسطينية المحتلة؛ حتى مع وضوح رؤية إسرائيل لهذا السلام؛ أنه يوفر السياق المناسب لتعميق احتلالها للأراضي الفلسطينية.. بنشر المستوطنات، وحصار غزة.. مطمئنة إلى أن الجانب الفلسطيني لن يلقى أي مساعدة فعالة من جانب الحكومات العربية، التي ارتضت خروجها من أي مواجهة مسلحة مع إسرائيل؛ سواء كانت هذه المواجهة مباشرة أو غير مباشرة.. بدعمها النضال المسلح الفلسطيني.
• • •
في ظل هذه الأوضاع من القبول العام بين الحكومات العربية للتطبيع مع إسرائيل، جاء طوفان الأقصى – الذي اتخذت المبادرة فيه حركة حماس في غزة، وساندها فاعلون من غير الدول.. في لبنان واليمن والعراق. وكانت تلك هي أطول حرب تخوضها إسرائيل – استمرت حتى كتابة هذه السطور 435 يوماً أي خمسة فصول – بينما لم تتجاوز أي حرب نظامية بين إسرائيل والجيوش العربية عدة أسابيع قليلة، وطالت فيها أسلحة هذه الحركات العمق الإسرائيلي، وألزمت ملايين من الإسرائيليين والإسرائيليات البقاء في المخابئ.. ساعات طويلة وأياما متعددة.
لكن التفوق العلمي والتكنولوجي والعسكري لإسرائيل، والمساندة المطلقة التي تلقتها من جانب الإدارة الأمريكية.. مكَّنها من تجنب ضغوط الرأي العام العالمي، ورفض قرارات الجمعية العامة للأمم المتحدة.. بوقف عدوانها، والأحكام والدعاوى المدينة لها من كل من محكمة العدل الدولية والمحكمة الجنائية الدولية، كل ذلك.. مكَّن القيادة الإسرائيلية ــ ويساندها الرأي العام الإسرائيلي ــ من الرد على سقوط نظرية الأمن الإسرائيلي في طوفان الأقصى، وكشف وجهها الحقيقي العنصري والاستعماري.. الساعي للسيطرة على الدول العربية؛ بتفتيتها إلى كيانات طائفية، بممارسة الإبادة الجماعية في غزة، والسعي لضم الضفة الغربية وعدم الاعتراف بأي سلطة فلسطينية، وادعاء الحق في التدخل العسكري في جنوب لبنان.. متى شعرت بخطر على أمنها، وخرق اتفاق فك الاشتباك مع الحكومة السورية، واحتلال المنطقة العازلة في الجولان.. والتوسع بعد ذلك داخل الأراضي السورية، ثم بإعلان وزير خارجية إسرائيل عن عدم واقعية بقاء سوريا دولة موحدة؛ فمن الأفضل – في رأيه – أن تكون هناك.. دولة للدروز وأخرى للأكراد وثالثة للمسيحيين ورابعة للعلويين وخامسة للسنة. ويأتي ذلك في سياق دولي يتسم بإدارة أمريكية – قائمة أو قادمة – لا تُخفي تأييدها المطلق لإسرائيل، وضعف القوى الدولية الأخرى.. التي كان يمكن أن تساند العرب، أو عزوفها عن ذلك في الوقت الحاضر.
ليست هذه التصريحات، مجرد تعبير عن النشوة.. بما تتصوره إسرائيل من انتصار على المقاومة الفلسطينية في غزة، وعلى حزب الله في لبنان، وهزيمة كل محور المقاومة في الوقت الحاضر، ولكنها ترجمة أمينة لمخططات قديمة – منشورة في 1982 في مجلة كيفونيم، الصادرة عن الإدارة الإعلامية للمنظمة الصهيونية العالمية – لخصتها مقالة لأوديد ينون، وهو صحفي عمل قبل ذلك في وزارة الخارجية الإسرائيلية، ودعا فيها إلى ضرورة سعي إسرائيل لتشجيع انقسام الدول العربية كلها إلى كيانات طائفية، بما في ذلك الدول العربية المستقرة.. مثل مصر والمملكة العربية السعودية.
لا ينبغي التقليل من أهمية هذه الكتابات، فقد بدأت الحركة الصهيونية بكتاب تيودور هرتزل عن الدولة اليهودية في 1896. ويتصور أصحاب هذه التوجهات.. أن أمن إسرائيل يتحقق بإضعاف الدول العربية، من خلال تقسيمها إلى كيانات طائفية متنازعة.. تتحارب فيما بينها، ولا تملك لا تحقيق الاستقرار السياسي، ولا توفير ظروف الحياة الكريمة لمواطنيها ومواطناتها، كما نرى دلائل على ذلك في الخلافات بين أكراد العراق، والحرب التي مزقت دولة جنوب السودان.. بعد انفصالها عن السودان.
لكن حتى يتحقق ذلك لا تتوقف إسرائيل عن السعي للحيلولة دون تقدم أي دولة عربية علمياً أو تكنولوجياً أو عسكرياً. عملاؤها هم وراء اغتيال العلماء العراقيين الذين انخرطوا في برنامج الأبحاث النووية في العراق والذي كان برنامجاً سلمياً، ويشاع أن حركة اغتيال لعلماء سوريين جرت في الأيام الأخيرة، كما هاجمت الطائرات الإسرائيلية مراكز أبحاث سورية، واعترفت من قبل بتدمير مفاعل نووي عراقي.
ولا تسلم الدول التي تسعى لعلاقات تطبيع مع إسرائيل.. من ضغوط إسرائيلية لوقف تعزيز قدراتها العسكرية. الصحف الإسرائيلية حافلة بمقالات تدّعي القلق من تطور القدرات العسكرية المصرية، وتعترض إسرائيل على إبرام معاهدة للسعودية مع الولايات المتحدة.. تساعد بمقتضاها واشنطن في تطوير قدرات البحث العلمي في الرياض في الاستخدام السلمي للطاقة النووية.
لا تريد القيادة السياسية في إسرائيل.. أن تحيطها دول مستقرة ومتقدمة، تدخل معها في علاقات سلام؛ لا في الوطن العربي ولا في الشرق الأوسط.. ومحاربتها للبرنامج النووي الإيراني السلمي أمر معروف وموثق.
• • •
ما زال يحدونا الأمل – في هذه اللحظات الخطيرة – أن تدرك الحكومات العربية التهديد.. الذي تمثله إسرائيل على استقرارها وتقدمها، وهي تملك الأدوات للوقوف في مواجهة هذه المخططات الإسرائيلية.. بدعم التضامن فيما بينها، والتوقف عن الصراع على الزعامة في الوطن العربي، ومواجهة ضغوط الإدارة الأمريكية الجديدة.. من أجل توسيع علاقتها باسرائيل، وإذا كانت هذه الإدارة تتبع أسلوب الصفقات؛ فلتكن الصفقة هي تسليم إسرائيل بحق الشعب الفلسطيني.. في إقامة دولته، وتوقف أجهزتها عن السعي لتفتيت الدول العربية وإضعافها، وأن تتوقى هذه الحكومات مثل هذا الخطر.. بأن تقيم السلام مع مواطنيها ومواطناتها، فتقر بأن لهم ولهن حقوقاً مدنية وسياسية مشروعة، وتستخلص الدروس الصحيحة.. مما جرى لنظام بشار الأسد في سوريا.
وإذا كانت الحكومات العربية ستتأخر في إدراك هذه الحقائق؛ فستقع تلك المهمة.. على عاتق النخبة المثقفة العربية، للمساهمة في الخروج من هذه النكبة الثالثة.
نقلاً عن «الشروق»