Times of Egypt

‎ المهادنة العربية وتسفيه المقاومة يكرسان النكبة الثالثة 

Mohamed Bosila
مصطفى كامل السيد 

مصطفى كامل السيد 

‎ليس من المبالغة وصف ما تقوم به آلة الحرب الإسرائيلية في المشرق العربي.. بأنه النكبة العربية الثالثة؛ تحضير دموي من جانب إسرائيل، لضم كل من الضفة الغربية وغزة.. للمساحات التي سيطرت عليها من أراضي فلسطين التاريخية، ومن توسُّع سيطرتها على قسم كبير من الأراضي السورية.. انطلاقاً من الجولان المحتل، وتمسُّك بالبقاء في نقاط عديدة داخل لبنان، ثم دعوات صريحة لتقسيم سوريا.. على أساس طائفي، وترديد ادعاءات بأن حدود إسرائيل التاريخية – التي يباركها كتاب مقدس – تمتد من النيل إلى الفرات.. شاملة أراضي في العراق وفي المملكة العربية السعودية. هذا هو الواقع الملموس.. الذي تقذفه في وجوهنا مطالعة الصحف في الصباح، وتواصله قنوات التلفزيون وشبكات الأنباء الأخرى طوال الوقت.. صباحاً ومساء. 

العجيب، أنه بينما كانت هناك إرادة عربية تصدت في 1947-1948، لبداية تبلور المشروع الصهيوني.. بإقامة دولة إسرائيل، الذي سجل النكبة العربية الأولى، ثم رفض العرب في الخرطوم في أغسطس 1967 نتائج النكبة الثانية.. في حرب يونيو قبلها بشهرين، بل وقدموا الدعم المالي والعسكري لدول المواجهة، التي أصرت على تصفية آثار تلك الحرب، فبالمقارنة بموقف العرب – شعوباً وحكومات – وقت هاتين النكبتين، يواصل المشروع الصهيوني تعميق نكبة العرب الثالثة، ولا يجد منهم إلا إصراراً على مهادنته، وعزوفاً عن التفكير في المقاومة، بل واستهزاء بمن يدعو إلى هذه المقاومة.. باعتباره ساذجاً، أو مقامراً بحياة ومصالح الشعوب العربية. ويتساءل هذا المقال عن منطلقات موقف المهادنة هذا، وما إذا كان يعد بأن يصل إلى بعض مبتغاه؟ ويستكمل ذلك باستعراض صور المقاومة.. التي يمكن للعرب – أو بعضهم – استخدامها، إذا ما توفرت لديهم مثل هذه الإرادة. 

 

منطق المهادنة 

‎يتمثل الموقف المهادن للمشروع الصهيوني.. في الجهود التي بذلتها الحكومات العربية منذ مؤتمر القمة في بيروت في 2002، الذي أعلن مبادرة السلام العربية، فهو لا يعلن الحرب على إسرائيل، بل يسعى إلى إقناع قادتها.. بأن مبادلة الأرض العربية المحتلة بسلام كامل، ينطوي على إقامة علاقات متعددة المجالات معها، هو في مصلحة إسرائيل، كما أنه في مصلحة الشعوب العربية. ونظراً لأن قادة إسرائيل لم يقبلوا بهذا العرض السخي.. من جانب الحكومات العربية، فقد سعت هذه الحكومات – باتصالاتها الثنائية والجماعية – لإقناع ما تسميه بالمجتمع الدولي – قاصدين بذلك الدول الغربية المساندة لإسرائيل، وفي مقدمتها الولايات المتحدة – بهذه المبادرة، وأملاً منها أن تقوم الأخيرة.. بممارسة الضغط على الحكومة الإسرائيلية، لحثها على قبول هذه المبادرة. 

‎تعكس محاولات الحكومات العربية.. للتعامل مع الموجة الجديدة من العدوانية الإسرائيلية – منذ أكتوبر 2023 – نفس المنطق. وأبلغ تعبير عنه، هو ما تقوم به الحكومتان المصرية والقطرية.. من وساطة بين حركة حماس وإسرائيل، وبمشاركة الولايات المتحدة الأمريكية. وآخر تعبير عن هذا المنطق، هو خطة إعمار غزة.. التي كانت مقترحاً مصرياً، وافقت عليه القمة العربية منذ أسابيع، ولقي تأييداً من منظمة التعاون الإسلامي، ومن أربع دول أوروبية هي المملكة المتحدة وفرنسا وألمانيا وإيطاليا. صحيح أن خطة الإعمار.. لا تتماشى مع شطحات الرئيس الأمريكي دونالد ترامب؛ بتهجير الفلسطينيين والفلسطينيات من غزة، وتحويلها لمنتجع سياحي، ولكنها – من ناحية أخرى – استجابة لدعوته بتقديم بديل يقبله، وتأمل الحكومات العربية أن تنجح في إقناع الإدارة الأمريكية بهذه الخطة، ضمن مقترح أوسع.. يشمل استكمال الانسحاب الإسرائيلي من غزة – في مرحلة ثانية من اتفاق وقف إطلاق النار بين حماس وإسرائيل – ويكون تنفيذ خطة الإعمار هو المرحلة الثالثة.. في إطار الانطلاق إلى تسوية شاملة للقضية الفلسطينية، على أساس حل الدولتين. 

‎من المعروف للقراء، أن الآمال العربية المعلقة على هذه الخطة.. قد تلاشت، مع مماطلة الحكومة الإسرائيلية في الانطلاق إلى المرحلة الثانية، بل واستئنافها الحرب الوحشية على قطاع غزة، وعدولها عن استمرار تنفيذ سائر التزاماتها.. بموجب اتفاق وقف إطلاق النار؛ مثل الانسحاب من ممر نتساريم، والسماح بمرور المساعدات الغذائية والدوائية والمياه.. إلى سكان القطاع المحاصر، بل شرعت في عملية برية، لتثبيت وجودها العسكري في قلب القطاع، وإجبار الفلسطينيين والفلسطينيات من جديد.. على إخلاء مناطق في شماله، وحصرهم في جنوبه، بل والإعلان عن السعي لتهجيرهم.. مثلما تمارس مع أشقائهم وشقيقاتهم في الضفة الغربية. 

‎ليس من المدهش، أن تخفق جهود المهادنة – التي تسعى لتسوية سلمية لقضية الشعب الفلسطيني – فالشروط المطلوبة لتحقيق مثل هذه التسوية.. لا تتوافر في ظرف المواجهة الشرسة بين إسرائيل والمواطنين الفلسطينيين العزل، المحاصرين في الضفة وغزة، بل ولا تتوافر في الإطار الأوسع لمواجهة إسرائيلية-عربية.  

تشمل هذه الشروط، قناعة أطراف النزاع بأن استمرار الحرب ليس في صالح أي منهم، وأن تكون هناك ضمانات دولية لإعمال التسوية.  

قيادة اليمين المتطرف في إسرائيل، تعلن أن الحرب على الفلسطينيين والعرب في لبنان وسوريا.. هي ما يحقق مرحلة جديدة في تنفيذ المشروع الصهيوني. كما أن الطرف الدولي – الذي تأمل الحكومات العربية أن يكون ضامناً للتسوية – أعلن.. على لسان الرئيس الأمريكي ومبعوثه للشرق الأوسط، تأييده الكامل لما تقوم به إسرائيل. ونظراً لفائض القوة الذي تتمتع به إسرائيل – علمياً وتكنولوجياً وعسكرياً – ولتركيبة الإدارة الأمريكية.. التي لا يكاد يوجد فيها صوت واحد يبتعد عن الرؤية الإسرائيلية، فلا ينتظر أن تتوافر شروط تسوية سلمية بين إسرائيل والجانب الفلسطيني، ولا أن تنجح سياسة المهادنة.. التي التزمت بها الحكومات العربية، المعنية بتطورات الصراع الفلسطيني-الإسرائيلي. 

لماذا تغيب الرغبة في المقاومة؟ 

‎على الرغم من اتضاح الخطر.. الذي تمثله مخططات الحكومة الإسرائيلية، سواء بتهجير سكان القطاع إلى دول عربية مجاورة – تحديداً مصر والأردن – وتوسُّع احتلالها لأراضٍ سورية ولبنانية، وامتداد أطماع قياداتها إلى أراضٍ عربية أخرى، وحديث رئيس الوزراء الإسرائيلي عن شرق أوسط جديد.. تختفي فيه الكيانات التي رسمها اتفاق «سايكس بيكو»، لتحل محلها كيانات أصغر.. تقوم على أساس طائفي، اختفت من الخطاب العربي الرسمي أي دعوة لمقاومة هذا المشروع، الذي يهدد الوحدة الإقليمية للدول العربية، واستقرارها الاجتماعي والسياسي، وتطلعها المشروع للعيش في إقليمها بسلام. بل على العكس، تتكرر – في كتابات وتصريحات عبر الصحف والإذاعات وقنوات التلفزيون – مقولات الاستهزاء بالمقاومة.. بكافة صورها، وتسفيهها، وتصوير من رفعوا راية المقاومة في الماضي القريب وفي السنوات الأخيرة – سواء كان جمال عبد الناصر في مصر، أو حماس في فلسطين، أو حزب الله في لبنان – بأنهم هم سبب كل ما يعانيه العرب.. أو بعضهم، من استمرار الاحتلال الإسرائيلي لأراضيهم، وتعثر جهود التنمية، واشتداد التوتر في العلاقات مع إسرائيل. وتغفل هذه الأصوات أن المقاومة هي النتيجة الحتمية.. للاستعمار الاستيطاني العنصري، الذي تجسده إسرائيل. 

‎من ناحية أخرى، لم تتخلَّ كل القيادات العربية عن توهمها أن إدارة ترامب.. ستكون أقرب للاستجابة لوجهة نظرها؛ سواء اعتقاداً بأن العلاقات الشخصية معه.. ستكون أفضل من العلاقات مع الإدارة الديمقراطية التي سبقته، أو لأنه لا يقيم للديمقراطية وحقوق الإنسان وزناً.. في سياسته الخارجية، أو لأنه سيكون أكثر حزماً.. في التعامل مع خصوم هذه القيادات إقليمياً أو محلياً؛ مثل إيران أو الحركات الإسلامية. يضاف إلى ذلك، انشغال كل هذه القيادات بمشروعات قطرية، تتراوح بين تأكيد سلطة الدولة.. في بلاد استعرت فيها النزاعات الطائفية، أو لم تخمد نيرانها بعد. وتعزيز النفوذ الإقليمي والعالمي.. لدول أتاحت لها ثروتها النفطية موارد هائلة، رفعت من أسهمها على مسرح السياسة الدولية. ولكن يغيب في الوطن العربي في الوقت الحاضر، مشروع قومي عربي.. تتبناه قيادات تجد مصلحة دولها في تعميق التضامن العربي، ومكافحة من يمثلون خطراً وجودياً على شعوبه، ووحدة أراضي دوله. 

هل من سبيل للمقاومة؟ 

‎العجيب في ظل ظروف النكبة العربية الثالثة.. أن أدوات مقاومة المشروع الصهيوني قائمة، وأن عدداً من الدول العربية.. هي في وضع أفضل مما كانت عليه وقت النكبة العربية الأولى. هي على الأقل تتمتع بالاستقلال السياسي، ولا تخضع للاحتلال العسكري.. مثلما كان حال معظمها في 1948.  

وهي تملك حرية أوسع.. في رسم سياساتها الخارجية، وبعضها يحظى بموارد – في الطاقة والمال – تعطيها حضوراً ونفوذاً وكلمة مسموعة.. في دوائر صنع القرار على مستوى العالم. وليس المقصود بالمقاومة.. شن الحروب فقط، مع الاعتراف بأن المقاومة المسلحة.. حق مشروع لكل الشعوب التي تقع تحت الاحتلال الأجنبي.  

إحدى صور المقاومة، هي وقف التعامل مع العدو الصهيوني.. في الوقت الذي لا يكف فيه عن التراجع عن اتفاقات عسكرية وأمنية، وقَّعها مع حكومات عربية، لا يكف عن التهديد بنقل أزمات احتلاله إليها؛ بتهجير ضحايا هذا الاحتلال إلى أراضيها، بينما هي تكافئه باستمرار العلاقات الاقتصادية معه، بما يعود عليه بالنفع. 

‎صورة ثانية للمقاومة، هي بوقف التطبيع الدبلوماسي والاقتصادي والأمني، وإلغاء تسهيل عبور تجارة العدو الصهيوني وطائراته.. من جانب دول لم تضطر للدخول في اتفاقيات تطبيع معه، ثمناً لجلائه عن أراضيها.. التي احتلها في السابق.  

صورة ثالثة، هي التمهل في إغداق الاستثمارات.. على الدول التي تقف – وحدها في العالم – مناصرة وداعمة للمشروع الصهيوني الاستعماري العنصري. 

‎صورة رابعة هي الوقوف مع الحكومات التي ناصرت حق الشعب الفلسطيني؛ برفع دعاوى أمام المنظمات القضائية الدولية لمحاكمة الكيان الصهيوني على جرائم الحرب والإبادة الجماعية التي ارتكبتها إزاء هذا الشعب. 

‎صورة خامسة، هي تكثيف المعونات الغذائية والدوائية والصحية وغيرها للشعب الفلسطيني، وابتكار الوسائل التي تتحدى الحصار.. الذي يفرضه عليه المحتل الإسرائيلي. 

‎ليست هذه – بكل تأكيد – صور المقاومة المشروعة للشعب الفلسطيني، وسوف يكون لها أثرها في جعل قادة إسرائيل ومن يناصرونها، يدركون أن هناك ثمناً يدفعونه.. لاستمرار عدوانهم على الشعب الفلسطيني، أو تأييد هذا العدوان.‎ 

 نقلاً عن «الشروق» 

شارك هذه المقالة
اترك تعليق

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *