د. نيفين مسعد
أتيح لي أن أزور العاصمة العراقية بغداد لأول مرة، وأن ألتقي فيها برموز بارزة من المسؤولين
السياسيين وعلماء الدين والمثقفين ورؤساء المراكز البحثية. وبقدر ما عدتُ بصورة للعراق الجديد..
الآمن الناهض المنفتح على محيطه العربي والعالم، وهي صورة تختلف كثيراً عن تلك التي يروِّج لها
الإعلام – بوعي أو بدون وعي – فإنني تأكدتُ من أننا في حاجة إلى حوارات عربية-عراقية، ويهمني –
بشكل خاص – أن ينشأ حوار مصري-عراقي.. على مستوى النخب غير الرسمية، فما زال هناك الكثير
الذي لم يُقل بعد.
يعتب العراقيون على الدول العربية.. أنها لم تقف معهم في مواجهة القمع الشديد، الذي تعرَّضوا له على
يد صدام حسين، وأنه حين تصدَّت الولايات المتحدة لإسقاط نظام البعث.. أدار العرب ظهورهم للعراق.
هذا العتب تكرر في عدد من المحافل التي حضرتها، وكان عاماً في مجمله، لكن عموميته لم تحُل دون
الإشارة – مرة أو مرتين – إلى خذلان العرب للعراقيين، عندما لم يدعموا «الانتفاضة الشعبانية» لشيعة
العراق ضد صدام حسين في شعبان/مارس 1991.
هذه النقطة الجوهرية.. في شعور العراقيين بالمرارة تجاه الدول العربية، تحتاج إلى مناقشة هادئة
وموضوعية؛ فهناك فرق بين التدخل العربي – الذي تم في إطار تحالف عاصفة الصحراء – لأن الأمر
كان يتعلق بإنهاء عدوان دولة عربية.. على دولة عربية أخرى، وبين عدم التدخل العربي لوقف قمع نظام
البعث لمواطنيه.. الشيعة أو الأكراد، أو حتى السنة المعارضين له. وذلك لأن الأمر في الحالة الأخيرة،
كان يتعلق برفض التدخل في الشأن الداخلي لدولة عربية، وضد النظام الممسك بالشرعية؛ بغضِّ النظر
عن الحكم عليه. فهذا الباب.. لو انفتح على مصراعيه، لانتشرت الفوضى في المنطقة، لأنه سيعطي الحق
لكل صاحب مصلحة.. في تحويل دفة النظام في أي بلد عربي، إلى الاتجاه الذي يرغب فيه.
هنا، سوف يتم استدعاء نموذج التدخل المصري في اليمن.. دعماً للثورة ضد نظام الحكم الإمامي. لكن
هذا التدخل، تم بدعوة من المعسكر الجمهوري.. الذي كان قد وصل إلى الحكم في سبتمبر 1962، ومثَّل
الشرعية في حينه، واعترفت به الولايات المتحدة.. في ديسمبر من نفس العام. وعندما وقع التدخل العربي
في اليمن – في إطار عاصفة الحزم في مارس 2015 – فإنه كان بدعوة من الرئيس الشرعي.. عبد ربه
منصور هادي، ضد انقلاب جماعة الحوثي على مخرجات الحوار الوطني. كما أن التدخل السوري في
لبنان، جاء بطلب رسمي من الرئيس اللبناني سليمان فرنجيه في مارس 1976؛ أي أن هذا التدخل بدوره
كان يتمتع بالشرعية.
وبالنسبة للتدخلات العربية المتفرقة.. في الصراعات الداخلية في سوريا وليبيا بعد عام 2011، فإن تلك
التدخلات لم تتم بشكل مباشر.. عبر إرسال قوات إلى ساحات الصراع. أما في ما يتعلق بأن العرب أداروا
ظهورهم للعراق في 2003، فإن مواقف الدول العربية.. الرافضة للعدوان الأمريكي-البريطاني على
العراق، كانت جزءاً لا يتجزأ من المواقف الرافضة لهذا العدوان.. من كل دول العالم، فضلاً عن موقف
الأمم المتحدة.
هل خلق التخلي العربي فراغاً.. سارعت إيران بملئه؟ نعم حدث هذا، واحتاج العرب وقتاً طويلاً.. قبل أن
ينفتحوا على العراق، وهو ما ينقلنا إلى النقطة التالية.
جاءت العلاقة العراقية-الإيرانية في صلب النقاش.. حول العلاقات العربية-العراقية، واستند المنطق
العراقي.. إلى أن إيران جارة للعراق، وله معها حدود طويلة.. والجغرافيا لا تتغير، وهذا صحيح.
وأن إيران احتضنت المعارضة العراقية.. قبل إسقاط صدام حسين، ودعمت العملية السياسية منذ 2003،
وهذا أيضاً صحيح.
والأهم، ما قيل عن أنه لا أحد من حقه.. مناقشة أي دولة في سياستها الخارجية. وتلك مسألة فيها نظر،
وإلا فيم كان عزل مصر عربياً، بعد توقيعها معاهدة السلام مع إسرائيل؟
ومما أثير أيضاً بكثافة، أن شيعة العراق – كما شيعة البلدان العربية – هم جزء لا يتجزأ من دولهم، بل إن
شيعة جبل عامل في لبنان.. هم الأصل والأساس وراء انتشار المذهب، ولذلك تألم أبناء هذه الطائفة
الكريمة كثيراً، من تصريحات بعض الحكام العرب.. حول أن «ولاء أغلب الشيعة في المنطقة لإيران،
وليس لدولهم»، وحول «الهلال الشيعي».. الذي تسعى إيران لتشكيله.
هذا الألم مقدَّر تماماً؛ فكل حكم مطلق.. مرفوض، وكل تعميم.. خاطئ. ومواقف المرجعية الدينية العليا –
ممثلة في سماحة السيد علي السيستاني، المنحازة للدولة العراقية.. واضحة تماماً، ومنه خرجت أهم فتوى
لمنع سقوط الدولة.. في قبضة تنظيم داعش. لكن على الجانب الآخر، فإن أحداً لا ينكر أن إيران تغولت –
في العراق – على حق الجوار، وأنها حاولت أن تزج به في صراعاتها الخارجية.. من خلال توظيف
بعض الفصائل الشيعية المسلحة، ولم تقدر حرص الدولة العراقية.. على ألا تكون ساحة لتصفية الحسابات
الإيرانية-الأمريكية-الإسرائيلية، وأحياناً الخليجية أيضاً.
عندما نأتي لموضع مصر – في اللقاءات مع مختلف الأطياف العراقية – نجد أن مصر.. وإن طالها بعض
من العتب العراقي على العرب، لكن في الوقت نفسه.. فإنني لا أكاد أذكر لقاءً واحداً – بالمعنى الحرفي
للكلمة – لم يتطرق إلى أنه.. في ظل سعي العراق لاستعادة حضوره العربي، ودوره الإقليمي الفاعل؛ فإن
تقاربه مع مصر يحتل دوراً مركزياً.. في توجهه؛ الذي لا أستطيع وصفه بالجديد، لأنه بدأ فعلياً من عدة
سنوات، لكن يمكنني تأكيد أنه.. صار أكثر تبلوراً ورسوخاً. ولقد ترك حضور الرئيس عبد الفتاح السيسي
إلى قمة بغداد أثراً بالغ الإيجابية.. في العراق على كل المستويات، وأطلق الحديث عن أهمية التعاون بين
مصر والعراق.. كدولتين عربيتين – كبيرتين وقديمتين – في مختلف المجالات.
وكم أتمنى أن يتم البناء على هذا الأساس الجيد.. في علاقة مصر بالعراق، وأن يتوازى التقارب الرسمي
بين الدولتين.. مع تقارب آخر على المستوى الشعبي، فلقد كانت الجولة الأولى من الحوار – مع أطياف
المجتمع العراقي – جولة استكشافية.. فيها من الصراحة والوضوح والشفافية الشيء الكثير. لكنها ركزت
أكثر على الجزء التاريخي من العلاقة، وهذا يعني أن المستقبل يحتاج إلى مزيد من الاهتمام به.. في
جولات قادمة.
نقلاً عن «الأهرام»