Times of Egypt

الطاغية السياسي والدين والتدين الشعبي: الرقابات المتبادلة (1/2) 

Mohamed Bosila
نبيل عبدالفتاح

نبيل عبدالفتاح 

لعبت الأديان الوضعية والسماوية – في التاريخ الإنساني – أدواراً سياسية واجتماعية هامةً، في شرعنة أنظمة عديدة للحكم.. في كافة الحضارات والمجتمعات ما قبل الحداثة السياسية، وأضافت أنماطاً من القداسة الوضعية على ممارسة الحكم، لا سيما لدى الطغاة القدامى والمحدثين، وذلك من خلال استخدام طبقة رجال الدين المحترفين.. كأتباع وسند لهم، وهو ما اختلف مع تطورات النظم والسلطات السياسية مع الثورات الأوروبية الكبرى – أوليفر كرومويل 1638-1653، والفرنسية 1789-1799، ثم الأمريكية 1765-1783. 

مع تشكُّل الدول القومية، وتطوراتها الاقتصادية الرأسمالية وحركة التصنيع، وإبداعات الفكر والفلسفة السياسية، حدث التمايز بين ما هو وضعي وما هو ميتاوضعي، وتحوَّل الدين والتدين من النزعة الجماعية.. إلى إيمان فردي يمارس خلاله الفرد – أو لا يمارس – عقائده وطقوسه. ثم أدت الحريات الدينية إلى تحوُّل الإيمان والإلحاد واللاأدرية.. إلى أحد مكونات الحريات الدينية والعامة والفردية. 

النماذج الأوروبية السياسية في العلمانية، والفصل بين الدين والدولة، باتت تمثل المرجع العالمي في علاقة الدين والدولة والقانون والفرد، وبات نظام الشرعية يرتكز إلى الحريات والقيم والقواعد الدستورية الليبرالية، والتنافس الحر بين الأحزاب السياسية، وبرامجها المتعددة السياسية والاقتصادية والاجتماعية المتنافسة. 

في الموروثات السياسية والدينية الطغيانية.. في المجتمعات العربية، كانت – ولا تزال – العلاقة بين الدين والدولة والهيمنة الرمزية والسيطرة على المحكومين وثيقة العُرى، ولا تكاد تنفصم، أو تتمايز – قبل الاستعمار وبعد الاستقلال الوطني – وذلك لأن شرعية الحاكم المتغلب – في الفقه السُني – تتمركز على السند الديني الوظيفي، والسيف والعنف والاتباعية والخضوع من الجماعة، ومن ثم تشكلت عبر الزمن ثقافة الطغيان، والخضوع من المحكومين للحكام، وتابعيهم.. من ذوي القوة والنفوذ من دوائر الموالين لهم. 

هذه المواريث الدينية السياسية أثرت في الفكر السياسي والديني، وهيمنت عليه النزعات النقلية والجمود والاتكالية، والجبرية على العقل الديني التابع، ومعه المحكومون ونمط تدينهم الشعبي، وبات الفكر يشكل أحد معتقلات العقل والضمير العربي. 

مع صدمة الحداثة الغربية ومدافع نابليون وعلماء الحملة الفرنسية على مصر.. ساعدت الصدمة على المساهمة في تشكل الظروف الموضوعية، التي أدت إلى صعود محمد علي باشا إلى سدة الحكم، ثم إسماعيل باشا، ودورهما في بناء الدولة الحديثة، وخاصة تطورها.. مع التعليم، والحركة القومية الدستورية، والتحول إلى المرحلة شبه الليبرالية 1923-1952، وبعض من التغير النسبي في علاقة الدين بالدولة، وبخاصة مع دستور 1923، والقضاء الحديث المستقل، وسيادة الحريات العامة والشخصية في المبادئ والأحكام القضائية، والفصل بين السلطات، ورقابة البرلمان على أعمال السلطة التنفيذية، ورقابة الصحافة. 

في هذه المراحل المتعددة.. مع ثقافة المدينة، شاعت بعض النزعات الكوزموبوليتانية حول القاهرة والإسكندرية، وبعض حواضر المدن، ومعها روح شبه علمانية، والتعايش بين الأديان، وتفاعُل بعض القيم شبه الحداثية بين المصريين.. متعددي الديانات والمذاهب، والأجانب والمتمصرين.. داخل العقل والفكر المصري، وبخاصة مع الانفتاح الثقافي على المرجعيات الأوروبية والفكر القانوني اللاتيني، وهو ما أدى إلى طرح بعض النقاشات والمساجلات حول الدين والدولة والقانون – علي عبدالرازق مثلاً في «الإسلام وأصول الحكم»، والتجديد والإصلاح الديني – محمد عبده وتلامذته لا سيما المشايخ مصطفى المراغي، ومحمود شلتوت، وعبدالمتعال الصعيدي، ومحمد عبدالله دراز – وأيضاً طه حسين في كتابه الشعر الجاهلي، والجدل حول الإيمان والإلحاد، ودستور 1923. 

كان النظام شبه الليبرالي – حيث تسعى نخبته الفكرية والسياسية إلى استمداد فكرها السياسي شبه الليبرالي من المرجعية الأوروبية – مع بعض التعديلات الجزئية في النظام القانوني اللاتيني، مع بعضٍ من نظام الشريعة والفقه الإسلامي. 

كان توظيف الدين في السياسة يبدو ناعماً، إلا أن التغريب السياسي، وثقافة الانفتاح على المرجعيات الأوروبية في ظل الاحتلال البريطاني الغاشم، أدَّيا إلى تشكُّل بعض الجمعيات السلفية، ثم جماعة «الإخوان المسلمين». 

بعد نظام يوليو التسلطي 1952، ومعه دول وأنظمة ما بعد الكولونيالية الأوروبية، هيمن العقل العسكريتاري، والسلطات الاستبدادية، والتسلطية على هذه الأنظمة. في ظل هذه الأطر والسياقات والبنيات الاجتماعية التقليدية والسياسية، تمت مصادرة الحريات العامة، وتقييد الفردية، وهيمن الاستخدام الوظيفي للدين على أداء وظائف سياسية، وذلك كمصدرٍ من مصادر الشرعية السياسية، وفي التعبئة السياسية والحشد الجماهيري، وفي السياسة الخارجية المتقلبة، وفي إنتاج بعض القوانين، وشرعنة بعض القيود على الحريات الفردية والعامة – (انظر كتابنا «المصحف والسيف صراع الدين والدولة في مصر» 1984 الناشر مدبولي) – لا سيما في عهدَي السادات ومبارك، وإلى ما بعد انتفاضة يناير/كانون الثاني الكبرى 2011، ووصول جماعة «الإخوان المسلمين» إلى سدة السلطة، وما بعد استبعادهم وإلى الآن (انظر كتبنا «النص والرصاص» – دار النهار اللبنانية، و«سياسات الأديان» – مكتبة الأسرة، و«النخبة والثورة» – الهيئة العامة للكتاب مكتبة الأسرة). 

نقلاً عن «عروبة 22» 

شارك هذه المقالة
اترك تعليق

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *