وجيه وهبة
«التصوف الإسلامي في الأدب والأخلاق» هو عنوان كتاب/ رسالة، لزكى مبارك، حصل بها على درجة الدكتوراه الثالثة عام 1938، وكان قد حصل على درجة الدكتوراه الثانية من «السوربون/ باريس» عام 1931 برسالة عن «النثر الفني فى القرن الرابع الهجري». أما أول دكتوراه حصل عليها، فكانت عن «الأخلاق عند الغزالي».. من جامعة القاهرة عام 1924، هذه الرسالة التي أثارت حفيظة الأوساط الأكاديمية.. لما اتسمت به من جرأة في نقد الإمام «أبي حامد الغزالى»، وهو مَن هو عند «أهل السُّنة».
فى مفتتح كتابه «التصوف الإسلامي في الأدب والأخلاق»، يحكي لنا «زكي مبارك».. عن انتمائه – في مطلع شبابه – إلى إحدى الطرق الصوفية (الشاذلية)، وعن ترقي مرتبته فيها، حتى أصبح له مريدون وأتباع فى قريته (سنتريس).
وذات يوم، حدث ما عكر صفو علاقته بشيخه، (الشيخ الطماوي)، ذلك حينما انتقده الشيخ، واتهمه بعدم مراعاة آداب وتقاليد الصوفية لأنه «يضع رجلًا على رجل».. فى حضرته. تعجب «زكي» من تفاهة مبرر انتقاد الشيخ، لحركة تلقائية غير متعمدة. وخلص إلى اقتناع بأن «الصوفية أرباب ظواهر، وإن ادّعوا أنهم أرباب قلوب».
ويعترف «زكي مبارك» أنه – «فى ظلال تلك الأزمة» مع شيخه – قد ألف كتاب «الأخلاق عند الغزالي» – الذي نال به إجازة الدكتوراه – الذي يصفه بقوله: «هو كتاب تجنيت فيه على التصوف، ورميت أشياعه بالغفلة والجهل، وجعلت سلوكهم سببًا فى انحطاط الأمم الإسلامية».
كان كتاب زكي مبارك «التصوف الإسلامي في الأدب والأخلاق»، الذي صدر بعد ثلاثة عشر عامًا من كتابه «الأخلاق عند الغزالي»، هو عبارة عن مراجعة.. في شكل بحث معمق صقلته السنين، مراجعة شجاعة لموقفه السابق، الذي تحامل فيه على «الإمام الغزالي» وعلى الصوفية. وكان قد أدرك خطأه، حين عمّم الحكم على عموم الطرق وعموم سلوك الصوفية، بسبب سلوك شيخ بعينه.. لطريقة بعينها. وفيما يلي، نقتطف من الكتاب ما يبين عن جرأة «زكي» – المعتادة- الباحث الجاد، الذي كثيرًا ما أثارت كتاباته زوابع فى الأوساط الثقافية:
■ «الخلاف بين أهل السُّنة والشيعة، ليس خلافًا دينيًّا كما يتوهم الأكثرون، وإنما هو – فى أغلب صوره – خلاف سياسي، ومَن قال بغير ذلك فهو غافل أو جهول، والصوفية من الشيعة يرون الغزالي من أساتذتهم.. وهو سني، والصوفية من أهل السُّنة.. يرون الحلاج من أساتذتهم، وهو شيعي. وكتب التصوف تسكت عن هذه الفروق المذهبية؛ لأن للتصوف غاية تفوق ذلك».
■ «التصوف ليس وقفًا على أولئك الدراويش، الذين يعيشون عيش التسول، ويتخذون شمائل الزهاد، صادقين أو كاذبين؛ إنما التصوف نزعة روحية، يحسها الأغنياء كما يحسها الفقراء، ويدركها الفاجر.. كما يدركها العفيف. وكم لفتة من لفتات الصدق، تقع من رجل معروف بالطيش.. هي أقرب إلى التصوف والروحانية، من أعمال كثير من المرائين.. الذين يلبسون مسوح الرهبان، ويضمرون غرائز اللئام من السباع والحشرات!».
■ «إن الرجل الذى يجود بدرهم مما يملك، أقرب إلى الزهد من الفقير، الذي يعف عن دينار مما لا يملك، وليس الزهد أن تطيب نفسك عن مغانم.. قد تنال وقد لا تنال، وإنما الزهد أن تطيب نفسك عن مال تعمر به خزائنك، ثم تجود به طائعًا للفقراء والمعوزين».
■ «إن من الإجرام في الحياة العقلية والوجدانية، أن نصف المفلسين والعجزة بالزهد والعفاف. إن الزهد أن تترك بعض ما تملك، والعفاف أن تكون عند القدرة مسيطرًا على هواك. أما أولئك الدراويش، الذين لا يقدرون على فسق ولا زيغ، فهم طفيليون فى عالم الأخلاق. وإنما يتبين الخلق عند الغنى والعافية، فمَن شاء أن يدرس التصوف حق الدرس، فلينظر فى حياة أرباب الثروة الضافية والشباب السليم، أولئك هم المجاهدون في عالم الأخلاق، وأولئك هم الصوفية، وإن لم يرتدوا المرقعات ولم يلزموا المحاريب».
■ «ليس من المستحيل أن يضل مثل ابن الفارض، أو أن يهتدى مثل أبي نواس، ولكن جرت العادة أن تؤول هفوات الصالحين، وأن تُنسى حسنات المذنبين، فلنجرؤ مرة على التصريح بأن الخضوع لسلطان العرف، لا يخلو من جبن أو ضلال، وأن آفة الباحثين أن ينحرفوا عن جهل أو رياء، عصمنا الله من غفلة الجهلة وتزوير المرائين!».
«الصوفية قوة هائلة فى الأخلاق، لا ريب فى ذلك، ولكن معاذ الحق أن يغيب عنّا.. أنهم لم يكونوا دائمًا موفقين، فقد كانت لهم هنّات وهفوات، واستطاع فريق منهم أن يُلحق بالعالم الإسلامي ضررًا غير قليل، ولو كانت مذاهبهم من الخير المحض، أو الشر المحض.. لما احتجنا إلى تأليف هذا الكتاب، فغايتنا أن ننبه إلى أن لهم محاسن خلقية.. ينبغى أن تُعرف، ففي الناس مَن ينكر عليهم كل فضل، وأن لهم مساوئ خلقية.. يجب أن تُعرف، ففي الناس مَن يسند إليهم كل فضل». ا. ه.
هذه لمحات من التصوف عند «زكي مبارك»، الذي هو أشبه ما يكون بتصوف متخيل، نجم عن زواج «نيتشه» من «رابعة العدوية»، وحمل صفات كل منهما.
الصوفية – في جانب من أهم جوانبها المتعددة – هي طيف عريض من الأفكار والمشاعر الوجدانية السامية، صاحبت الإنسان في رحلته عبر الزمان والمكان، والعقائد والأديان والمذاهب المختلفة، وهي أعمق كثيرًا من سطحية اختزالها في شيوخ ومريدين.. رتب وألقاب.. متبوعين وتابعين. هي جوهر أبعد ما يكون عن مهرجانات الكرامات والخزعبلات والأزياء، وكرنفالات الرقع والرقعاء.
تُرى ما الأسباب في تصاعد رواج صوفية الدروشة، والطقوس الشكلية.. في أيامنا هذه؟، وهل هو «رواج» أم «ترويج» ممنهج؟، وهل عدمنا من السبل لمواجهة تطرف الإسلام السلطوي والإرهاب والتسلف المتربص، إلا بتغييب تام للعقل بحجة «الممارسات الروحانية»؟.
الفرق شاسع بين «الأونطجية» الغشاشين، وبين عموم «الصوفية» الحقيقيين، فالصوفيون حقًّا لا يُشاهَدون.. لا يطلون علينا ليلًا نهارًا من كل حدب وصوب، لا يعلنون عن أنفسهم، فهم منشغلون عنها وعنّا.
لدينا نحو ثمانين «طريقة صوفية» مسجلة، فكم جمعية علمية مسجلة لدينا؟. هل تغول مجتمع الدراويش على حساب مجتمع العلم والعلماء والثقافة؟، أين التوازن؟. نحن نعيش على كوكب «ديجيتال»، فأفيقوا يرحمكم مَن في الفضاء السيبراني.
نقلا عن «المصري اليوم»