Times of Egypt

الصمت الدولي عن الإبادة في غزة!

Mohamed Bosila

د. عبد العليم محمد..
يبدو الصمت الدولي.. إزاء جريمة الإبادة والتطهير العرقي في قطاع غزة والضفة الغربية.. عصياً على الكسر، خاصة خلال الشهور القليلة الماضية، التي أحكم فيها الاحتلال الحصار حول غزة ومنع عنها كل المساعدات الإنسانية على مرأى ومسمع من العالم بأكمله. وتبقى هذه الملاحظة صحيحة إذا ما استثنينا، بطبيعة الحال، الشهور الأولى لبدء جريمة الإبادة والعدوان على غزة، وظهور ملامح المخطط الإسرائيلي حول التهجير وأفكار الرئيس الأمريكي ترامب – في بداية توليه ولايته الثانية – حول «ريفييرا» الشرق الأوسط وتهجير مواطني غزة إلى الأردن ومصر، حيث خرجت العديد من المظاهرات في بعض الدول العربية، ورافق ذلك انتفاضة طلاب الجامعات الغربية والأمريكية في باريس ولندن ومدريد وغيرها من المدن الأمريكية والأوروبية.
ورغم أن الصمت في الحالة العربية تقف وراءه، في ظاهر الأمر، أسباب سياسية وثقافية ودينية، فإن هذه الأسباب تتداخل وتتشابك.. مع عناصر أخرى ذات طبيعة نفسية، وتتعلق بالميراث الفردي والجماعي. أما من الناحية الثقافية فثمة جزء، ولو صغير، من الميراث الثقافي العربي يحبذ الصمت ويفضله على الكلام. أما من الناحية الدينية فإن الرواية الدينية ترتكز على أن القضية الفلسطينية هي قضية العرب والمسلمين ـ ولا شك في أنها كذلك ـ غير أن الاكتفاء بذلك يساعد في مراكمة الصمت وتبريره؛ على اعتبار أن النصر موعود وحليفنا إن آجلاً أو عاجلاً.
حالة الصمت الدولي الراهن إزاء جريمة الإبادة والتطهير العرقي، إن في غزة أو الضفة الغربية، تمتد إلى جذور أعمق من الناحية النفسية والاجتماعية، يمكن توصيفها بحالة «اللامبالاة» تجاه الإبادة في غزة على غرار ما حدث من جرائم الإبادة الجماعية في «رواندا» وسط أفريقيا، عام 1994، وحالة التطهير العرقي التي وقعت في البوسنة والهرسك عام 1995. في مثل هذه الحالات المشار إليها يفقد الأفراد والجماعات الحساسية إزاء اتخاذ مواقف جماعية، وتنظيم فاعليات مدنية.. تفضح مرتكبي هذه الفظائع، ويعود فقدان مثل هذه الحساسية أولاً لتكرار مشاهد القتل والدم والعنف والموت والاعتياد عليها، ومن ناحية أخرى فإن غياب الاستجابة قد يعود إلى شعور الفرد أو الجماعة الداخلي بأن احتجاجهم واعتراضهم الأخلاقي والقيمي على هذه الفظائع لا يجدي ولن يؤثر في مجرى الواقع، كما أن هذا الشعور يمتد إلى ما يسمى استنفاد «رصيد الرحمة» لأن الصراع في غزة والضفة يمتد بلا أفق للحل، ويصبح قتل الفلسطينيين وإبادتهم كما لو كان واقعاً معتاداً وعادياً، بل كما لو كان قدراً محتوماً.
على صعيد آخر، فإن وسائل التواصل الاجتماعي الحالية.. جعلت من الإبادة والتطهير العرقي ووقائعهما مادة متداولة على نطاق العالم بأسره، سواء في صورة فيديو أو أخبار أو لقطات مصورة تُرى بالعين وتُسمع في اللحظة والتو. وهذا التطور إن توقف عند ذلك فهو – بلا شك إيجابي – وحيوي ويخدم أهداف التوثيق والمحاكمات التي يمكن أن تجرى أو قد جرت بالفعل، ويكشف الطبيعة العنصرية والإجرامية للاحتلال، ويكسر الأقنعة التي حاول بها تضليل العالم وصرف الانتباه عن مخططه ونياته ورسم صورة أخلاقية للاحتلال سرعان ما انهارت مع بدء جريمة الإبادة. أما وقد أصبحت هذه الفيديوهات والأخبار والصور مصحوبة بالدعوة لإعادة بثها ونشرها على أوسع نطاق، فإن هذه المهمة التي لا تحتاج سوى لنقرة على المحمول أو جهاز الكمبيوتر لإرسالها إلى آخرين، تبدو كما لو كانت بديلاً فعالاً وإيجابياً للمشاركة بطرق أو وسائل أخرى ضمن فعاليات جماهيرية ومدنية وحقوقية واحتجاجية تُظهر موقف الرأي العام وأبعاد التأييد الذي تحظى به القضية الفلسطينية.. رغم أن الرأي العام لا يصنع السياسات؛ إلا أنه يؤثر فيها بدرجات مختلفة، ويحمل صانع القرار – بالذات في الدول الديمقراطية – على إعادة بلورة الاتجاهات والسياسات.
أما على الصعيد الغربي الأوروبي والأمريكي فإن الأمر قد يختلف كثيراً أو قليلاً، ذلك أن هذه البلدان لا تغيب عنها الديمقراطية أو حرية التعبير.. بنصوص الدستور والقانون، ومع ذلك فإنه بعد انتفاضة الطلاب والجامعات في العديد من المدن الأمريكية والأوروبية، فقد ران الصمت أيضاً على جريمة الإبادة والتطهير العرقي.. الجارية على قدم وساق في غزة والضفة، ولهذا الصمت في المجتمعات الغربية أسباب عديدة؛ تتمثل في اعتياد الموت في هذا الصراع، وامتداده بلا أفق للحل، وكذلك اللامبالاة الاجتماعية.. التي أصابت المجتمعات الغربية مع تكرار الإبادة والتطهير العرقي في «رواندا» – التي قُتل فيها خلال مائة يوم مئات الآلاف من قبيلة «التوتسي» – وفي البوسنة والهرسك.. قُتل الآلاف من البوسنيين، فضلاً عن المهجرين.
لكن ثمة أسباباً أخرى للصمت في الحالة الغربية.. تتجاوز بكثير حالة الصمت العربية، من بين هذه الأسباب قدرة المجتمع الصناعي الرأسمالي.. على صنع إنسان ذي طبيعة أحادية مادية، تقلص من قيمة الإنسان وتباعد الفجوة بينه وبين المعاناة، ومن ثم فإن مأساة غزة والشعب الفلسطيني.. ليست سوى جزء من المشهد العالمي؛ الذي يتعامل مع حياة البشر.. كأداة للتفاوض والمساومة والابتزاز، بدلاً من أن يكون الإنسان هو القيمة العليا.
امتدت مؤخراً في الدول الغربية.. موجة تعريفات لمعاداة السامية جديدة، فبدلاً من أن يكون هذا المفهوم وفق نشأته التاريخية.. هو معاداة اليهود كجماعة بشرية، والتمييز ضدهم بسبب ديانتهم أو ما دون ذلك، أصبح تعريف معاداة السامية في الغرب مرادفاً لمعاداة السياسات الإسرائيلية، ويندرج في ذلك انتقاد هذه السياسات وبيان لا أخلاقيتها، وهو الأمر الذي أفضى إلى وجود ظاهرة «الذعر الأخلاقي».. التي بموجبها لا يستطيع الشخص الجهر بأخلاقياته وقيمه.. التي تعتبر مرجعيته، خوفاً من الوقوع تحت وطأة الاتهام، وفقد العمل والامتيازات التي يحظى بها؛ خاصة في الدوائر الإعلامية والثقافية والصحفية المهمة. وبطبيعة الحال قد لا ينطبق ذلك على العديد من الفئات في المجتمعات الغربية.. التي بمقدورها تحمل تبعات مواقفها الأخلاقية؛ حتى لو تعلق الأمر بفقد العمل أو العقاب. ورغم ذلك فإن الصمت قد يحمل معاني ودلالات كثيرة.. مثل عمق الاحتجاج، ولكنه لا يحمل على الإطلاق صفة القبول.
نقلاً عن «الأهرام»

شارك هذه المقالة
اترك تعليق

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *