نبيل عبدالفتاح
الفلسفة القانونية الوضعية، ومناهجها التحليلية في الفكر القانوني الغربي.. أدت إلى هيمنة النظرة الواقعية في إنتاج التشريعات الوضعية، وسيطرة النزعة الشكلانية في الفن القانوني، ونظريات تفسير القواعد القانونية.. في الدول الأورو-أمريكية.. الأكثر تطوراً في عالمنا.
الوضعية والشكلانية.. في تفسير وتأويل القوانين، ركزت على بنيات النصوص القانونية، في تفسيرها وتحليلها، من الفقه القانوني، والجماعات القضائية المستقلة، على نحو أدى إلى ضمان وحماية الحريات العامة والشخصية.
الاتجاهات الوضعية، تُخفي – فيما وراء الأنساق القانونية – بنية القوة السياسية والاجتماعية، وصراعات المصالح الاقتصادية والقانونية، وطبيعة المصالح المسيطرة.. التي انتصر لها المشرع في كل نظام سياسي واجتماعي واقتصادي أورو-أمريكي. والاستثناءات محدودة، وتتمثل في تغليب المشرعين.. اعتبارات تتصل ببعض التوازنات بين المصالح المتعارضة، ومن ثم مقتضيات الاستقرار الاجتماعي والسياسي، ومن ثم الميل إلى تبني مصالح قطاعات وطبقات اجتماعية أوسع، من الطبقة الاجتماعية المسيطرة، ومعها الشرائح الاجتماعية العليا.. من السراة عند قمة النظام الاجتماعي.
لا شك في أن حركية وفاعلية الأحزاب السياسية.. في النظم الديمقراطية التمثيلية، وصراعاتها السياسية، وتمثيلها داخل البرلمانات، أو من خارجها.. باتت مؤثرة؛ منذ زمن بسمارك في ألمانيا، ونظام الضمانات الاجتماعية، خاصة ما قبل وما بعد الحرب العالمية الثانية في أوروبا، وأيضًا مع ظاهرة الجموع الغفيرة، فى عقد الستينيات وما بعد من القرن الماضي.
الطبيعة الديمقراطية التمثيلية، ودور النقابات العمالية، والفلاحية، والتطورات التكنولوجية أثرت على بعض مسارات سياسات التشريع في أوروبا الغربية والشمالية.. في ظل الصراعات الدولية أثناء الحرب الباردة، وما بعدها، خاصة من خلال الحق في التظاهر السلمي، وحريات الرأي والتعبير والبحث العلمي، لا سيما فى مجال العلوم الإنسانية والطبيعية.
العوامل والمؤثرات السابقة الذكر، أسهمت في بعض التوازنات على مفهوم دولة القانون والحق، وعلى مفهوم العدالة، والمساواة بين المواطنين في هذه البلدان، خاصة في ظل تطور أجيال مبدأ المواطنة.
لا شك أيضاً في أن أجيال حركة حقوق الإنسان ومواثيقها المتعددة أثرت على سياسات التشريع في هذه الدول الأكثر تطوراً، على الرغم من النزعة الوضعية، وأدت إلى بعض من الوضعية القانونية الحقوقية والإنسانوية، التي استصحبت، ولا تزال، تمدُّد الحريات العامة والشخصية مع التحولات التكنولوجية والعلمية، وأيضاً التغيرات في السياسات الاقتصادية النيوليبرالية، وانعكاساتها على بعض سياسات التأمين الاجتماعي، في الصحة، وتأمينات البطالة وإعادة تأهيل المتعطلين، وبعض ذلك كان ولا يزال به بعض من السلبية.
أدت ظواهر الثورة الرقمية الاجتماعية، والاتساع الكبير في الفضاءات الرقمية، ومنصات التواصل الاجتماعي، إلى تخليق أشكال جديدة ومتغيرة من أدوات التعبئة، والضغوط الرقمية على الأحزاب السياسية وقادتها، وكوادرها، وبرامجها السياسية، والاجتماعية، في تبني بعض المصالح الاجتماعية للطبقات الوسطى، والعمالية، والفلاحية.
إن ظاهرة جماعات السترات الصفراء في فرنسا – على سبيل المثال – وغيرها في دول أوروبية أخرى، كانت جزءاً من ظواهر الجموع الرقمية، التي تتشكل على الحياة الرقمية، وتحمل معها بعض مؤشرات التغير في المقبل من العقود، وربما السنوات، على النظم الديمقراطية التمثيلية الأوروبية، من حيث إدخال تعديلات دستورية وتشريعية جديدة، تتمثل في طرح بعض القوانين المهمة والأساسية، والماسة بقطاعات اجتماعية للاقتراع العام، بعد استفتاء يتوافر له شرط تجميع أعداد من الأصوات من الجماعة الناخبة تطلب طرح مشروع التشريع للاستفتاء العام، مائة ألف أقل أو أزيد ممن لهم حق التصويت.
لا شك أيضاً في أن جماعات الضغط الرقمية.. تؤثر أيضاً على الحكومات المنتخبة، أياً كانت سياساتها وبرامجها السياسية والاجتماعية، وعلى قراراتها المختلفة.
من هنا – وعلى الرغم من سياسات التشريع ذات الفلسفة والمدرسة الوضعية – فإن التحولات التقنية من الثورة الصناعية الثانية والثالثة إلى الرابعة، أثرت على الوضعية والشكلانية النصوصية.. إلى نمط من الوضعية الاجتماعية – إذا جاز التعبير- ذات الطابع المتكامل والمتوافق مع ثورة حقوق الإنسان في المجتمعات الغربية، وأثرها على تمدد حريات الفرد العامة، والشخصية، وعلى الأنظمة القضائية، وتفسيراتها وتأويلاتها المتطورة نسبياً – رغم الطابع المحافظ نسبياً لجماعات القضاة – في مجال الحريات.
في جنوب العالم، وخاصة دول ما بعد الاستقلال وأنظمتها الدستورية، والقانونية، ومرجعياتها الأوروبية، تم إدخال بعض التعديلات على الدساتير والقوانين، وذلك للتوافق النسبي مع النظام القانوني للشريعة الإسلامية، في مجال الأحوال الشخصية للمسلمين، وأيضاً المذاهب المسيحية واليهودية وشرائعهم، والأخطر وضع نصوص دستورية توظفها السلطات لصالحها.. في فرض بعض القيود القانونية على الحريات العامة والفردية، واستخدام الدين وظيفياً في العمليات السياسية، وضد المعارضات اليسارية والقومية والليبرالية، بل والجماعات الإسلامية السياسية أياً كانت، في ظل الخلافات والصراعات، وبعض التحالفات معها.. ضد القوى السياسية المعارضة الأخرى.
لا شك في أن الوضعية القانونية سادت بعض البلدان العربية – ذات المرجعية القانونية اللاتينية – في الاتجاهات الفقهية والقضائية، ومن ثم ظلت سنداً للسلطات الحاكمة – مع بعض الاستثناءات – في حجب الطابع الطبقي للقوانين، وما تحمله من الانحياز لمصالح الطبقة الحاكمة، وسندها الاجتماعي، ولرجال الأعمال.. بعد الانتقال إلى سياسات الباب المفتوح اقتصادياً، وإلى النيوليبرالية الرأسمالية اتباعاً للضغوط الدولية، والانصياع لصناديق التمويل الغربية. نيوليبرالية اقتصادية، وتسلطية سياسية على صعيد الحريات العامة والشخصية، وأيضاً في مجال نظام الإجراءات الجنائية.
ثمة أيضاً عدم إيلاء التوازن بين المصالح المتعارضة أهمية.. لكي يكتسب القانون الفاعلية في التطبيق على المخاطبين بأحكامه، وعدم تغليب اعتبارات التوازنات بين القوى الاجتماعية المختلفة، تحقيقاً للاستقرار السياسي والاجتماعي.
الطابع الأداتي للقوانين.. أدى إلى تضخم وانفجارات تشريعية ذات طابع وقتي، لا تراعي الاعتبارات المستقبلية، ومن ثم تزايدت التعديلات على التعديلات، وهو ما أدى ولا يزال إلى عدم التناسق والتكامل بين القوانين، ومن ثم إلى تناقضات بين نصوصها، كما حدث في بعض قوانين العقوبات العربية. من هنا كان الطابع المؤقت في وضع القوانين، محمولاً على السرعة، يدفع إلى تعديلات غير مدروسة في أبعادها المختلفة، ومن ثم يتم وضع التعديلات عليها، والتعديلات على التعديل وهكذا… إلخ .
بعض السياسات التشريعية العربية.. لا تأخذ بالاتفاقيات الدولية التي وقعتها وصادقت كل دولة، وتغدو جزءاً من نظامها القانوني، ومن ثم ضرورة إدخال تعديلات على القوانين التي تتناقض معها، وهو ما أدى إلى اختلالات وتناقضات في الأنساق القانونية العربية.
من ناحية أخرى، تمددت الفجوات بين السياسات التشريعية العربية، والقانون المقارن، وأيضاً مع المرجعيات التاريخية للقوانين العربية – اللاتينية والإنجلوساكسونية – وهو ما يفاقم من مشاكل التشريع والتطبيقات والمبادئ القضائية مع التغيرات العالمية المتطورة تشريعياً وقضائياً، ويحول دون ضمانات للحريات وحمايتها.
من هنا تبدو متطلبات وضرورات إدخال تعديلات كبرى في الأنظمة القانونية العربية، في سياق إصلاحات سياسية واجتماعية، ودمقرطة الدولة والمجتمع. والثقافة القانونية والسياسية .
نقلاً عن «الأهرام»