سمير مرقص
«الأفكار التي لا تصدم العالم، لا يمكنها زعزعته»، بهذه العبارة يختم الفيلسوف والمؤرخ وعالم الاجتماع البريطاني «بيري أندرسون» (87 عاماً) مقاربته الإبداعية المتميزة، التي يقدم من خلالها إطلالة فكرية متعددة الأبعاد.. على ما يجري من تحولات جذرية في عالم اليوم، وذلك في دراسته المنشورة في العدد الأخير من دورية اليسار الجديد، العريقة، عنوانها «الأفكار-القوى»، يتناول فيها – بطريقة مركبة وجدلية – علاقة الفكرة/الأفكار.. بقوى المجتمع المادية والمثالية، والأثر المتبادل بين كل منهما: الفكرة/الأفكار والواقع، بما يتضمن قوى محركة ودافعة، محافظة وراديكالية.
ففي محاولة للتأمل الفلسفي/الفكري الهادئ – بعيداً عن التحليلات السيارة والخاطفة المرئية.. تعليقاً على الأحداث – يجتهد «أندرسون» في البحث عن الأفكار الحاكمة والموجهة للأحداث. وفي نفس الوقت.. الأفكار الناتجة عنها، التي سوف تحكم عقل العالم وتفاعلاته وصراعاته. كما يعمل على إعادة الربط بين الأفكار، ودورها في الانتفاضات السياسية.. التي شكلت معالم التغيرات التاريخية الكبرى. وفي نفس الوقت.. ما الأفكار التي أنتجتها تلك التغيرات، ومن ثم سادت وحكمت الواقع.
في هذا الإطار، يقوم «أندرسون» بعمل رصد تاريخي مكثف.. عن العلاقة بين الفكر والواقع، وأيهما يسبق الآخر: هل يسبق الفكر الفعل، أم يُوَلِّد الواقع الفكر. ويحاول أن يجيب – بتكثيف شديد – من خلال استعراض لكثير من الآراء من جانب، وكذلك استعراض أثر المنظومات الأيديولوجية المختلفة.. سواء التي قدمتها الأديان، أو الفلسفات، أو النظريات السياسية المختلفة.. عبر التاريخ، وحتى يومنا هذا من جانب آخر.
ويخلص «أندرسون» – من خلال مسح بانورامي للمسار التاريخي للعالم – إلى كيف أنه لا توجد صيغة واحدة، يمكن اعتمادها.. فيما يتعلق بأولوية الأفكار، وأثرها على تغيير الواقع من جهة، ثم دور الأفكار لاحقاً.. بعد حدوث التغيير من جهة أخرى.
يأخذنا «أندرسون» في سياحة تاريخية وجيوسياسية وثقافية ومادية.. لمتابعة كيف أن الأفكار تراوحت في تأثيرها، في ضوء أربعة عوامل يمكن أن نجملها في:
الأول: اللحظة التاريخية المواكبة للفكرة/الأفكار.
والثاني: السياق الجغرافي السياسي الذي تشكلت فيه الفكرة/الأفكار.
والثالث: التطور الاقتصادي والاجتماعي الذي نمت في سياقه الفكرة/الأفكار.
والرابع: التراث الفكري والثقافي والأيديولوجي وأثره في بلورة الفكرة/الأفكار.
ولا يقف «أندرسون» في حديثه عند دور الفكرة/الأفكار – السابق على حدوث التغيير – بل يتابع حديثه حول الفكرة/الأفكار بعد حدوث التغيير، وهل بقيت الفكرة/الأفكار على راديكاليتها، أم تحولت. وما طبيعة هذا التحول، هل هو محافظ أم ليبرالي، أم ماذا. وهل سمح الواقع الجديد بتنوع الأفكار.
شملت السياحة «الأندرسونية».. التطورات الفكرية (إيجاباً وسلباً)، التي سبقت، ولحقت.. بالتغيرات التاريخية الكبرى على مدى:
أولاً: العصور القديمة، وإلقاء الضوء على الأثر الفكري للمسيحية على الإمبراطورية الرومانية، كذلك الأثر الفكري للإسلام على محيطه الجغرافي الأرضي والبحري (الشرق الأوسط حسب المسمى الحديث).
ثانياً: مروراً بالعصر الحديث بمراحله: النهضة والإصلاح والتنوير، وثوراته التاريخية الفارقة: الفرنسية والأمريكية، وحركاته العمالية والاجتماعية المختلفة.
ثالثاً: القرن العشرين والربع الأول من القرن الحادي والعشرين؛ بما جرى في الأول من حربين عالميتين، وانقسام أيديولوجى للعالم، وثورات شبابية ودينية وتكنولوجية ومعلوماتية، وحركات مدنية، وثورات دول الأطراف المجتمعية، والعولمة…إلخ. ثم الانطلاقة المذهلة.. فيما يشبه الانفجار في مجالي الثورة الرقمية ووسائل التواصل الاجتماعي، والصعود اللافت لقوى غير تقليدية، وتنامي الحركات المواطنية القاعدية – من خارج القوى السياسية التاريخية التي عرفها العالم عقب الحرب العالمية الثانية – والحضور الفاعل لحركات الدفاع عن البيئة والمناخ، ومناهضة العولمة والاختلالات الاقتصادية والاجتماعية المتفاقمة، والانتقال إلى ما بات يُعرف بالثورة الصناعية الرابعة، وحركة الجنوب العالمي، والحروب الإقليمية في المناطق الحيوية حول العالم… إلخ.
ويخلص «اندرسون» – من متابعته التاريخية البانورامية للتطورات الفكرية عبر العصور القديمة والحديثة والراهنة – إلى أنه «يُحسب للأفكار (المنظومات الفكرية) أن لها ثقلاً معتبراً في ميزان الفعل السياسي، وحصيلة التغير التاريخي».. في وقت واحد. ويدلل على ذلك، من خلال إلقاء الضوء على المنظومات الفكرية.. لكل من: التنوير والماركسية والنيوليبرالية، وأثر كل منها منذ تسعينيات القرن التاسع عشر وحتى يومنا هذا. ففي كل منظومة – من تلك المنظومات التي عرفتها الإنسانية – «تم تطوير نظام معقد من الأفكار».. كي يستطيع أن يواجه الواقع.. بكل عناصره الاقتصادية، والاجتماعية، والسياسية، والثقافية.. قبل حدوث التغيير وبعده. وتتراوح قدرة الأفكار ــ في لحظة تاريخية محددة ــ على مواجهة الواقع، ومن ثم التأثير فيه، وعلى من يعيشون هذا الواقع.. بقدر ما تتسم به «بنية الفكر من راديكالية وصلابة» وتماسك، ومن ثم الإجابة عن تساؤلات لحظة الأزمة/التغيير والاستجابة للتحولات. وعليه تدخل الفكرة/الأفكار دورة جديدة من الاختبار مع الواقع.
انطلاقاً مما سبق، يصل «أندرسون» إلى أن العالم منذ ثمانينيات القرن الماضي.. ولا يزال، يخضع لهيمنة أحادية أيديولوجية single dominant ideology؛ هي المنظومة الفكرية لليبرالية الجديدة ــ التي تعبر عن الجوهر الاقتصادي لليبرالية التاريخية ــ أو «العقيدة الاقتصادية» المنحازة للقلة الثرية، وتعمل لصالحهم على حساب الأكثرية.
ويرصد هنا «أندرسون»، كيف أسست المنظومة الفكرية لليبرالية الجديدة.. لفكرة جوهرية (أطروحة مركزية) مفادها أنه يمكن الاستغناء عن «الدساتير الليبرالية، والصحف الليبرالية، والفنون الليبرالية، والمعتقدات الليبرالية، لكن لا يمكن الاستغناء عن نظام اقتصادي فعال» هو النظام النيوليبرالي؛ ويحيل هنا أندرسون لمقولة «تاتشر»، بات الغرب يعتبره «النظام الاقتصادي الوحيد ولا بديل عنه». ويستعرض «أندرسون» – في هذا المقام – الأفكار المتعاقبة، التي تم ترويجها لتسويق الفكرة المركزية لليبرالية الجديدة، التي تبنتها نخبة الغرب الأطلسية السياسية ـ بالأساس ـ وهي: فكرة المحافظة الرحيمة لبوش، وكبح الديون لميركل، وعهد المسؤولية لهولاند، ومؤخراً «التغيير» لستارمر….
ويلفت «أندرسون» النظر.. إلى أن الهيمنة النيوليبرالية على العالم، لم تكن لتتحقق.. ما لم تتوافق «جميع» الحكومات في الشمال العالمي – بغضِّ النظر عما ترفعه من شعارات إنسانية وأخلاقية – على «متطلبات الحصار العسكري، أو الاحتلال، أو التدخل خارج النطاق الأطلسي».
جرى التوافق بين الحكومات ذات التاريخ الاستعماري، والحكومات الاسكندنافية.. التي عُرفت بأنها أنظمة اجتماعية ديمقراطية إنسانية على السواء. والسؤال هو: ماذا عن المنظومات الفكرية الأخرى، بما فيها الليبرالية التاريخية؟وهل يمكن أن تمتلك أفكاراً صادمة قادرة على المقاومة والتغيير؟ وما القوى التي يمكن أن تدعم تلك الأفكار؟
نتابع.
نقلاً عن «الأهرام»