نيفين مسعد..
في انتظار قدوم الطائرة جلسَت أسرة مكوّنة من رجل وامرأة مسنيْن، وبجوارهما فتاة لطيفة.. في حدود الرابعة عشرة من عمرها. إنها تقريباً في نفس عمر حفيدتيّ الحبيبتين أمينة ولي لي؛ وهذا سبب للانجذاب إليها بشكل لا شعوري. ظننتُ في البداية أن الرجل والمرأة.. هما جدّان للفتاة الصغيرة، ثم اكتشفت أن الرجل وحده هو جدّها، أما المرأة فإنها شقيقته التي يكبرها بسنوات كثيرة.. وذلك عندما خاطب حفيدته بصوت مفهوم بالكاد، لكنه عالٍ جداً قائلًا: عاجبِك اللي بتعمله أختي معايا يا ملَك؟ هذه الجملة كررها عدة مرات.
- • •
جمال ملَك.. غير مبهر، لكنه مريح للعين. والأهم، أنه كان جمال سنّها.. وهذا نادر، فبنات هذه الأيام يتعجلن الزمن بمساحيق التجميل، ليظهرن بملامح وهيئة النساء الناضجات، وإن هي إلا بضعة أعوام حتى يعدن للخلف درّ، ويثبتن عند عُمر العشرين، فكل نساء الكون عشرينيات.
تتدلّى من رأس ملَك ضفيرتان سوداوان.. طويلتان ومجدولتان.. من شعر مجعّد لم تمتد إليه بعد يد الكوافير، وتكشف ابتسامتها من وقتٍ لآخر عن أسنان.. فوقها أسلاك معدنية ملوّنة بالألوان الفوشيا والأخضر والسماوي لزوم التقويم.
يبدو لي مدهشاً، شيوع الحاجة لتقويم الأسنان بين أبناء الأجيال الجديدة. ولا أذكر أنني سمعتُ عن ظاهرة تقويم الأسنان ومشاكل الفك كلاس 1 و2 و3، ولا عن أطباء يتخصصون حصرياً في التقويم.. حتى تخرجتُ من الجامعة في نهاية السبعينيات. فعلى أيامنا، كان التسوُّس مشكلتنا الوحيدة، وكان طبيب الأسنان «بتاع كله».. كما يقولون، ولم يكن لكله علاقة بالتقويم. - • •
نعود إلى ملَك، التي التفتت بجسدها النحيل.. لتكون مقابلة لجدِّها تماماً، ومعه وجهاً لوجه. تُحكِم الكوفية الصوف النبيذي حول رقبته.. كي لا يبرد، وتربت على يده الممسكة بالعصا الأبنوس.. لتوقف ارتعاشتها، فتهتز اليدان معاً، وتنصت له بكل اهتمام، وتتبادل معه الحديث طوال الوقت. مظهر الجدّ.. يدل على أنه من طبقة أرستقراطية، وعندما أخذ يتكلم، تأكّد لي هذا الانطباع، ففي كلامه جُمل باللغات الإنجليزية والفرنسية والألمانية وحتى الإسبانية. ومَن يدري لعله كان دبلوماسياً قديماً، وربما كان أيضاً سفيراً مفتخراً – كما يقول رجال الخارجية المصرية.. عن السفراء الذين يملأون مراكزهم – فخمس لغات.. ليست بالشيء.
لفت نظري، أن كلام الجدّ كان أشبه ما يكون بالهذيان، إلا أن الفتاة كانت في قمة الانتباه.. لما يقول، وكانت ترد عليه بصوتٍ خفيض. استوقف الجدّ إحدى عاملات النظافة، وسألها أن تأتي له بصحف اليوم، وحدّد لها بالاسم صحيفتي الجارديان والليبراسيون، فعنّفته أخته، قائلة.. إن موضة الجرائد المتاحة في المطارات والطائرات انتهت، وانتهى زمانها، وكل شيء أصبح أونلاين. لم يبدُ على الجدّ.. أنه فهم معنى الكلام، والتفت إلى حفيدته سائلًا: عاجبك اللي بتعمله أختي يا ملَك؟ لم ترد الفتاة، لكنها نهضَت من مقعدها.. وتركَت له قبلة على خدّه، فهدأ وأكلها بعينيه امتنانًا. أحبُك يا ملَك.
- • •
شدّت هذه العائلة بتركيبتها العجيبة – الجدّ وأخت الجدّ والحفيدة – انتباهي. فأين هما والدا ملَك مثلًا؟ أما إن أمري وليس أمر العائلة.. هو العجيب فعلًا، فمالي أنا ومال والدي ملَك.. سافرا معها أو لم يسافرا؟
قد يكون الأكثر منطقية، أن أقول إنني لم أستطع أن أتخلّص من فضولي.. في متابعة الفتاة، وعلاقتها الناعمة بجدّها.
أقول إن هذا منطقي أكثر.. لأنني عادةً أشعر بضعف شديد تجاه الأشخاص كبار السن – وهو ضعف قديم جداً بالمناسبة – أما وقد دخلتُ في شريحة كبار السن من فترة بعيدة.. فلقد صار ضعفي أشد، وحساسيتي أكبر.
بدت لي ملَك – وكل ملَك في هذا المشهد – وكأنها طوق نجاة للجدّ المسن.. من مصاعب ضعف الذاكرة، وتشوّش الفكر، وعدم اهتمام الآخرين، والانفصال عن الزمن، وأشياء أخرى كثيرة.
ووجدْتُ أن هذه الفتاة.. ذات الأربعة عشر عاماً، تبدو أكثر وعياً ونضجاً، ورهافة وحناناً.. من أخت الجدّ. هذه الأخيرة، اهتمت كثيراً بردّ فعل الناس.. على ما يقوله أخوها، وما يفعله أخوها. ولم تُخفِ شعورها بالحرج.. في كل مرة علا فيها صوته، أو بدا كلامه خارج سياق المكان.. أو حتى الزمان. ولا أدري كيف أنها لم تلحظ.. كمّ التعاطف الذي أخذ يتكوّن مع أخيها المسكين، حتى أن هدوءاً نسبياً ران على مكانٍ.. الأصل فيه هو الضوضاء، وكأن الجميع قرر – دون تنسيق – أن يفسح المكان لصوت الجدّ.. فيدعه يثرثر ويدعه يمر.
لم أعد وحدي التي تراقب ملَك وعائلتها، والوَنَس بالناس شيء لطيف. - • •
انتحت الأخت جانباً، لتُجري اتصالاً تليفونياً.. ومن ورائها نظرات الأخ تتبعها، فلم يُنزل عينيه من عليها، إلا بعدما أنهت مكالمتها الطويلة. فسألها: كنتِ بتكلمي مين؟
ردت بنفاد صبر: فلانة.
رد على ردها بسؤال جديد: تاني؟
فعنّفته.. لأنه يسأل في ما لا يعنيه.
التفت الجدّ إلى حفيدته، قائلًا جملته المعتادة: عاجبك اللي بتعمله أختي معايا يا ملَك؟
لم ترد الفتاة.. هذه المرة أيضاً، وعاجلته بقبلةٍ على خده.. كأنها ترياق. فإذا به يهدأ، ويعود ليثرثر معها باللغة الألمانية.
لم يساورني شك، بعد ما رأيته.. أن هذه الفتاة الصغيرة هي جليسة جدّها، والقائمة على رعايته، ولولاها معه في هذه الرحلة.. لصمت أو انكسر.
لا أحد يعرف ظروف الناس، ولا ظروف أخت الجدّ.. بالتحديد.
والعناية بكبار السن.. ليست سهلة، وتحتاج صبراً وبالاً طويلاً. لكن جفوة المعاملة، صنعت حاجزاً نفسياً مع هذه المرأة.
جاء موظف المطار، لينادي على ركاب الطائرة المتجهة إلى دبي، فاستوقفه الجدّ.. ليطلب منه أي صحف والسلام، فليس معقولًا ألا يعرف أخبار العالم، فلم يُلقِ إليه الموظف بالاً.. كأنه لا شيء، أما الأخت فعادت تزجره، وعاد هو.. يشكوها إلى حفيدته. - • •
عندما قمتُ لإحضار كوب من الشاي، كانت ملَك قد قامت أيضًا لتجهيز طبقين.. أحدهما لجدّها بالتأكيد، أما الآخر فهو لصاحب النصيب.. هي، أو أخت جدّها.
راحت الفتاة الصغيرة تملأ الطبقين بعناية كبيرة.. طوّحت في الهواء ضفيرتها الطويلة، التي تدلّت وكادت أن تلامس أصابعها.
وبينما هي تقفل.. راجعة إلى جدّها، اقتربتُ منها، وهمستُ لها: باحبك يا ملَك.
توقفت الفتاة في مكانها.. من فرط دهشتها، وقالت في خجل.. شكراً، دون أن تعرف سبب حبي لها.
عبرتني، ثم التفتت إلى الخلف.. من باب الفضول< لعلها تفهم ما هي حكايتي بالضبط، ولماذا اخترتها بالذات.. لأقول لها ما قلته.
كنتُ ساعتها، أضع قطعة دونت بالسكر.. بجوار فنجان الشاي، فابتسمَت ملَك ابتسامةً خفيفةً، وانفجرَت مع ابتسامتها باقة من الألوان المبهجة.. فيها الفوشيا، والأخضر، والسماوي أيضاً.
نقلاً عن «الشروق»