Times of Egypt

آداب وفنون 2024: ما المجتمع إلا حفل موسيقى

Mohamed Bosila
سمير مرقص 

سمير مرقص..
(1)
«الموسيقى بين التناغم والإزعاج»
في عام 1913 أصدرت جماعة «الفنانين المستقبليين» – وهي مدرسة فنية، ضمت مجموعة من الفنانين الموسيقيين في إيطاليا – بياناً (16 صفحة) بعنوان: «فن الإزعاج The Art of Noise»؛ تضمَّن أفكاراً حول مستقبل الموسيقى، وكيف يجب على موسيقيي المستقبل.. أن ينفتحوا على كل ما يضج في الواقع والمجتمع، من أصوات وإيقاعات. إذ لم تعد الأصوات مقصورة فقط على تلك الأصوات الفطرية، التي تطلقها الطبيعة الملهمة للموسيقيين.. بإبداع النغم، وإنجاز «التناغم- الهارموني» المبدع.. المتمثل في المقطوعات الموسيقية بأشكالها المختلفة.
فلقد أنتجت الآلات المبتكرة.. كنتاج للتقدم الصناعي.. أصواتاً جديدة. نعم مزعجة، لكن لا بأس من استخدامها في العروض الموسيقية.. حتى وإن كانت صاخبة و«مزعجة»، وذلك على المستويين: اللحني/ الميلودي من جهة، وصناعة آلات موسيقية تبرز الأصوات المزعجة – المكتشفة حديثاً- من جهة أخرى. ويُعد البيان محطة مهمة، ربطت الإبداع الموسيقي- بشكل أو آخر- بالتطورات التقنية.. التي تحدث في المجتمع، لتكون ملهمة للموسيقيين في ابداعهم. بلغة أخرى، أصبحت هناك حفلات موسيقية – كونسرتات- تجمع بين الآلات التي تم ترويضها.. لإطلاق أصوات متناغمة، وأدوات/ آلات تم الإبقاء على أصواتها الفطرية.. دون أي معالجة تُخضعها للتناغم.
وعليه، باتت هناك إبداعات.. تجمع بين إنتاج موسيقي «مستمد» من مجموع الأصوات «المزعجة».. جنباً إلى جنب، مع الإبداع الموسيقي للأصوات «المتناغمة». وحول هذه الدعوة – التي وردت في «مانيفستو المستقبليين» لموسيقيي الربع الأول من القرن العشرين – يقول أحد المفكرين: إن هذا البيان، وتلك الدعوة التي دعا إليها، تعكس – في الواقع – تأسيساً للتأثير المتبادل بين السياق الاقتصادي-الاجتماعي-التقني، وبين الإبداعات الفنية المتنوعة.. ومن ضمنها الموسيقى. ما فتح المجال للربط بين المجتمع.. وما يحل به من مستجدات على جميع الأصعدة والتجليات الإبداعية الفنية المختلفة، والتعبير عن ذلك الربط، من خلال ما بات يُعرف في حقول المعرفة.. بعلم اجتماع الفن، الذي تفرع عنه علم اجتماع الموسيقى.
(2)
«أدورنو والتأسيس لدراسة العلاقة بين الموسيقى والمجتمع»
وعن علاقة الموسيقى بالمجتمع، يمكن القول إن الفيلسوف الألماني وعالم الاجتماع «ثيودور أدورنو» (1903ـ 1969) – أحد رموز المدرسة الفلسفية الشهيرة «مدرسة فرانكفورت» – يرجع له الفضل في العناية بالنظرية الجمالية، خاصة في سياق رأسمالي صناعي حداثي؛ حيث أبدع مرجعاً غاية في الاهتمام.. حول ما يُعرف في الفلسفة بـ «علم الجمال». إضافة إلى اهتمامه البالغ بإعمال التأمل الفلسفي.. حيال الإبداع الفني- خاصة الموسيقى- وعلاقته بالمجتمع. وفي هذا المقام، أصدر كتاباً بعنوان: مدخل إلى علم اجتماع الموسيقى. وهو عبارة عن مجموعة من المحاضرات التي ألقاها مطلع الستينيات.
ناقش «أدورنو» – في كتابه – الكثير من القضايا، مثل: وظيفة الموسيقى ودورها في المجتمع، ومفهوم الثقافة الشعبية، والأشكال الموسيقية المختلفة.. التاريخية الكلاسيكية والمستجدة المعاصرة، وعلاقتها بالتطور الاقتصادي-الاجتماعي-التقني، والعلاقة بين الطبقات والشرائح الاجتماعية والموسيقى… إلخ. ولعل من أهم ما خلص إليه «أدورنو» هو إلى أي حد هيمنت الثقافة الرأسمالية، وحدة النزعة الاستهلاكية التي ولدتها.. في تغليب الإبداع الموسيقي التجاري.
وقد كان رؤيوياً بتوقعه المبكر.. أن الموسيقى سوف تتأثر إلى حد كبير بأمرين: التطور التقني من جانب، والخضوع لحسابات السوق التجارية الاستهلاكية – خاصة مع تحول الموسيقى إلى صناعة – من جانب آخر. ما يعني تردي الاستماع إلى الموسيقى.. إذا ما استعرنا تعبير «أدورنو»، وتمثل انقطاعاً عن موسيقى «الكونسيرتات»: قديمها وجديدها. إنها موسيقى بدنية استهلاكية.. لا تقدم أي مساهمة أصيلة وجدية في مسار الإبداع الموسيقي.
(3)
«الموسيقى المعاصرة تجسيد للمجتمع وتطوراته وعلاقاته وموازين قوته»
في ضوء نهج «أدورنو» التأسيسي، صدر هذا العام كتاب – قليل الصفحات، ثمين المضمون – عنوانه: «علم اجتماع الموسيقى: التاريخ، النظرية، المنهج، الممارسة Sociology of Music: History، Theory، Methodology&Practice»، يمثل تحديثاً معاصراً لتأسيس «أدورنو» الريادي.. فيما يتعلق بالعلاقة التأثيرية المتبادلة بين الموسيقى والمجتمع. إذ يرسم خريطة معرفية ممتعة.. للأشكال الموسيقية المعاصرة، والمنتديات البحثية التي تقوم بدراسة أثر تلك الأشكال.. على المجتمع بشرائحه الاجتماعية، كذلك تطور تلك الدراسات.
كما يرصد الهياكل المؤسسية.. التي ينتظم فيها الموسيقيون؛ من مؤلفين، وملحنين، وصناع للأشكال الموسيقية المختلفة: الكلاسيكية، والجاز، والروك، والراب، والبلوز… إلخ. وتتبع الإبداع الموسيقى المتناغم من ناحية. والإنتاج الموسيقي.. الذي يعتمد بالكلية على التقنيات الرقمية من ناحية أخرى. ودراسة العلاقة الجدلية بين تأثر الموسيقى بالتطورات المجتمعية المستجدة، وأثرها على الإنسان المعاصر. ولعل من أمتع/ أهم ما قدمه الكتاب.. هو الكيفية العلمية والمنهجية في دراسة الأثر الاجتماعي للموسيقى، على المجتمع والمواطنين على اختلافهم.ودور الإعلام الرقمي المعاصر.. في رسم صورة ووظيفة الموسيقى المعاصرة، زمن الذكاء الاصطناعي؛ بأجياله الشابة.. دائمة التحول المزاجي و«الذائقي».
يعد الكتاب إضافة متميزة، تُعين في فهم السياقات المجتمعية.. بتطوراتها وعلاقاتها وموازين القوة فيها وتأثيرها على تشكل العمليات الإبداعية عموماً، والموسيقية خصوصاً، بأشكالها المختلفة، وماهية المتلقين لها.. الطبقية والثقافية. أي يمكن – من خلال الموسيقات المختلفة.. الأكثر شيوعاً والأقل شيوعاً- رسم صورة للمجتمع المعاصر.. باعتبار المجتمع حفلاً موسيقياً كبيراً.
نقلاً عن «المصري اليوم»

شارك هذه المقالة
اترك تعليق

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

For security, use of Google's reCAPTCHA service is required which is subject to the Google Privacy Policy and Terms of Use.