سمير مرقص
(1)
«جورج أورويل وإبداعات عابرة للزمن»
كما تعودنا في نهاية كل عام، نقوم بإلقاء الضوء على أهم الإبداعات.. التي أبدعها العقل الإنساني خلال عام، سواء كانت مطبوعة أو مرئية أو مسموعة. ومن ثم نخصص عدداً من مقالات شهر ديسمبر لتقديم ما نراه- في تقديرنا- مفيداًا للقارئ الكريم. في هذا العام صدرت ثلاثة كتب عن الأديب الإنجليزي «جورج أورويل» (1903- 1950) يجتهد أصحابها في التنقيب والكشف عن ثراء ما قدمه الرجل.. في حياته القصيرة جداًا.
فلقد استطاع «أورويل» أن يُبقي أعماله الروائية، وكتاباته النقدية: السياسية والأدبية والصحفية، خالدة في الذاكرة والوجدان البشريين. لذا عده البعض واحداً من المبدعين، الذين يتسمون «بالأصالة والرؤيوية»، لأنه استطاع أن يُبدع نصوصاً عابرة للزمن؛ بانحيازه للمواطن-الإنسان في كل مكان عاش فيه: بريطانيا، وبورما، وباريس، وإسبانيا، والمغرب… إلخ.
وقد كان هذا الانحياز.. بوصلته في التقاط اللقطات الحياتية-المجتمعية، التي تنتهك حياة المواطنين، وتحاصر استقلالهم الفكري والسياسي والاجتماعي، ويؤدي بالأخير إلى سلبهم حياتهم. تمحورت، إذن، إبداعات «أورويل» حول انتهاك المواطنة واستقلالية المواطنين.
فجاءت إبداعاته، لتجسد الجور الواقع على الإنسانية من قبَل: الاستعمار، وهيمنة الرجل الأبيض (روايتا أيام بورمية، وإطلاق النار على فيل). والشمولية الستالينية واستنساخاتها اللاحقة المختلفة (روايتا 1984، ومزرعة الحيوانات)، والحروب (رواية الحنين إلى كتالونيا)، والرأسمالية القاسية (روايتا الطريق إلى رصيف ويجان، ومتشرد في باريس ولندن)، والطبقية البريطانية (رواية ابنة القس)، واللا يقين الإنساني والخوف من المستقبل بفعل الأنظمة السياسية والاقتصادية الشمولية والطبقية والنازية والفاشية (روايتا الصعود إلى الهواء، وهدنة لالتقاط الأنفاس).
لقد صارت تلك الإبداعات، حسب الناقد صبري حافظ «أمثولات رمزية مثل أولاد حارتنا». ويقصد بالأمثولة النص أو السردية التي تُكتب وتحمل قدراًا كبيراًا من الرمزية. رمزية بسيطة تعبر عن واقع مأزوم ومؤلم، يمكن الرجوع إليها لفهم الواقع بأبعاده وتفصيلاته. ويُشار هنا إلى أننا في منطقتنا- وهو أمر جدير بلفت النظر إليه- احتفينا بما أبدعه «أورويل» لكشف وحشية الستالينية دون إعطاء نفس الاهتمام لأعمال «أورويل» التي عرَّت- بنفس القدر- قسوة وشراسة الرأسمالية من خلال رصده أوضاع العمال المتردية، والبؤس الذي طال حياة الناس البسطاء.
(2)
«إبداعات أورويل ضد انتهاك المواطنةفي أي زمان أو مكان»
لقد كان «أورويل» مخلصاًا لعهدٍ أخذه على نفسه هو: «فضح الكذب»: الأيديولوجي، والسياسي، والاقتصادي، والاجتماعي في عالم ما بين الحربين العالميتين، وما بعدهما أو المرحلة التي سك وصفها: مرحلة الحرب الباردة. كما عُني في إبداعاته بمستقبل عموم المواطنين وما يتعرضون له من انتهاكات سياسية واقتصادية وثقافية في أي مكان في العالم. ومن ثم اكتسبت تلك الإبداعات صفة العالمية.
ما جعل المُنظر السياسي «برنارد كريك» (1929- 2008) في كتابه «جورج أورويل: حياة George Orwell: A Life»، يصف «أورويل بأنه: شخصية مبدعة عالمية»، (يقع الكتاب في700 صفحة، صدر أولاًا في1980 وأُعيد طبعه مؤخراًا في2019). إذ يقول «كريك»: «استهدف أورويل الطبقة الوسطى وما دونها». كما استخدم تقنيات سردية.. تيسر وصول أدبه إلى عموم المواطنين. ومع الأزمات التي تعرَّض لها كلٌّ من المعسكرين: الشرقي أولاً، فالغربي لاحقاًا أصبح لمؤلفات «أورويل» حضور كبير في كل أنحاء العالم. ما دفع كبار النقاد مثل «تيري إيجلتون» وغيره لإعادة قراءة أورويل مجدداًا (راجع مقال إيجلتون في دورية لندن لمراجعة الكتب- يونيو 2003).
وأصبح لا يخلو عام.. من أن تصدر كتب تنظر في مؤلفات «أورويل» من زوايا عدة. ففي هذه السنة أصدر الناقد والروائي والمؤرخ الثقافي دي. تايلور كتاباًا بعنوان: «من هو الأخ الأكبر؟ الدليل إلى قراءة جورج أورويل»، (ويُشار إلى أن «تايلور» قد أصدر في مئوية «أورويل» عام 2003 كتاباًا عنوانه: «أورويل: حياته» في550 صفحة، وفي العام الماضي أصدر مجلداًا ثانياًا عنوانه: «أورويل: حياة جديدة»، في660 صفحة).
كذلك صدر، ثانياً، في هذا العام كتاب عنوانه: «أشباح أورويل: تحذيرات للقرن الـ21»، وثالثاًا صدر كتاب بعنوان: «جورج أورويل ومعضلة الوجود الأصيل Authentic Existence». الكتاب الأول يستعرض حياة «أورويل» القصيرة بمراحلها المتعاقبة وأثرها على إبداعه. كما يتناول الكتاب الثاني الواقع المعاصر من خلال «عدسة» نصوص «أورويل» ولفته النظر إلى عدم انتهاك المواطن، وهو المبدأ الذي يجب أن يسود في القرن الجديد في مواجهة الإقصاء، والقهر، واللامساواة، والفقر. أما الكتاب الثالث فيناقش كيف لا يفتقد الناس في أي مكان وجودهم المواطني الكريم واللائق.
(3)
«خلاصة الرؤية الأورويلية:
حياة مواطنية كريمة»
الكتب الثلاثة الصادرة في العام المنصرم تؤكد أن الأعمال الإبداعية الحقيقية ليس لها تاريخ صلاحية. وأنها من الثراء ما يجعلها ملهمة للكثيرين من المبدعين اللاحقين. كما أنها تصلح للاستدعاء في تفسير إشكاليات الحاضر.
كما تصبح، في مستوى من المستويات وفي لحظات تاريخية لاحقة، قادرة على تقديم رؤية للتاريخ الإنساني، وتفسير للخيارات الإنسانية الفردية المتعددة، وللسياقات المجتمعية المختلفة. لذا تتجاوز الكتب العرض النقدي النمطي للأدب إلى ما وراء ذلك ببعيد.
نقلاً عن «المصري اليوم»